واحدة من التجارب التي لم يحالفني الحظ فيها بعد اختبار المشاركة في انتخابات ما. أتمتع بالجنسية المصرية، ما يعني أني جزء من نظام الحقوق والواجبات المتعارف عليه نظرياً، لكن هذا لم يتحقق على الأرض، ذلك أن مصر، الدولة الاستبدادية، مثل بقية البلاد العربية والإسلامية والمتخلفة، توصلت إلى صيغة تضمن لها الإفلات من وصمها بالديكتاتورية وفي الوقت نفسه لا تجبرها على الالتزام بآليات النظام الديمقراطي وعلى رأسها المحاسبة من قبل الشعب، وتداول السلطة.

قبل الثورة وفي ظل حكم مبارك كان المواطن الجيد هو ذلك البعيد عن الصناديق، الذي يتعفف من الصراع الدائر حولها، ويعرف أن نتائجها لا تخصه فليس له التطفل على ما يحدث فيها. التزوير كان عملية شائعة للغاية، كاد أن يكون علنياً، تسويد البطاقات مهمة مارسها المشرفون على اللجان بتكليفات رسمية، ومئات الشهادات والفيديوهات والمقالات متوافرة حول تلك الفترة.

بعد 25 يناير، تغيرت النظرة إلى الانتخابات من جانب المواطن الذي امتلك وعياً يجعله مستعداً للدفاع عن حقه في التصويت، ومن السلطة التي أدركت أن عمليات التزوير بشكلها الفج والبدائى السابق لم تعد صالحة، الانتهاكات المباشرة أصبحت تعني اضطرابات وأحداث عنف وتمرد واعتصامات، الشعب أجبر السلطة على الانتقال إلى المستوى الثاني من اللعبة السياسية، تمرير ما تشاء عبر وسائل أكثر أناقة.. تزييف المعلومات، التشكيك في المعارضين وإبعادهم عن الطريق، الرشاوى الانتخابية. في الانتخابات الأولى التي جرت في مصر يمكن حصر آلاف المخالفات التي من شأن الأقل منها وصم أي عملية انتخابية بـ”المعيبة”.

يمكن تعريف أي عملية انتخابية حقيقية وسليمة بأنها تلك التي يُمنَح المرشحون خلالها فرصاً متساوية لإقناع الجمهور برؤاهم، وشرطها الثاني ضمان السلطة للناخبين الإدلاء بأصواتهم بحرية كاملة دون ضغوط ما، بلا محاولة لفرض رأي أو التأثير لدعم وجهة نظر ضد أخرى، مع إتاحة المعلومات كاملة عن المرشحين واللجان والمشرفين والمراقبين. وهي مجموعة الشروط التي تم الإخلال بها بالكامل طوال خمس عمليات انتخابية أجريت من بعد 25 يناير.. أولها الاستفتاء على التعديلات الدستورية مارس 2011 والذي دشن بدء مرحلة استخدام الدين بشكل مباشر.. “نعم” تعني الجنة، و”لا” عقابها دخول النار. توظيف منهجى للدين، أسفر إلى جانب عمليات التخوين، وإلقاء القبض على نشطاء، وعمليات الاغتيال، عن منع فصيل بالكامل من المنافسة، ومن ثم طرده بالكامل من الساحة، لتخلو لفريقين امتلكا الملعب منذ 52: الجيش والإخوان.

في ذلك الوقت كنت خارج البلاد، وقررت المقاطعة، وهو موقفي الثابت من ساعتها. الكثير من أصدقائي وصفوا قراري بـ”السلبي”، وربما أنا في بعض اللحظات شعرت بذلك، غير أنه لم يكن أمامي طريق آخر، فالمشاركة تعني ضمناً الموافقة على الانتقال من التزوير إلى التزييف، والمقاطعة كانت محاولة من الفريق الذي تبنيت موقفه للضغط في طريق إصلاح مسار العملية الانتخابية، لكن ذلك الرأي لم يكن الغالب، الفئة التي قررت المقاطعة كانت أقل عددا وصوتاً وسط الحماس للتغيير، وهو حماس لم يفد كثيراً للأسف، خرجت النتائج كما هو متوقع، وثبتت السلطة طريقة في التعامل مع الانتخابات ستظل باقية لفترة على حسب ظني.

نحن الآن على أعتاب انتخابات رئاسية جديدة، يتم التعامل معها بنفس منطق الانتخابات الخمس السابقة. انتخابات لا نجريها لأننا نسأل الناس الاختيار، بل لأن المطلوب التأكيد على نتيجة محددة سلفاً، نريد المشير السيسي رئيسا للبلاد، وبغض النظر عن رأيي في الرجل أو برنامجه الانتخابي، الذي لم يتم الإعلان عنه للآن، إلا أن تلك الانتخابات المزمعة، وبكل ملابساتها، ليست في تقديري سوى اعتذار جماعي عن ثورة 25 يناير، اعتذار عن الفهم والإدراك، وعن الفترة التي شاركنا فيها كمواطنين في إدارة البلاد.

ليس مهما من أوصلنا إلى هذه الحالة.. الإخوان أم الجيش أم كليهما؟ بالطبع السلطة تواطأت ومارست من الألعاب والحيل ما يعادل ربما كل المؤامرات السياسية التي تم تسجيلها للآن. لكن هذا في النهاية ما تفعله السلطة دوماً، يظل الذئب في قصص الأطفال يطارد الحمل، وإن توقفت الفريسة في منتصف الطريق لتلوم الصائد فلن تجني سوى الموت. ونحن، مثل ذاك الحمل، قررنا التوقف في منتصف الطريق، فقدنا الاهتمام ربما، أو مللنا من كل هذا الضجيج الذي تمت ممارسته بشكل عمدي من قبل الإعلام.. البلد على وشك الضياع، المؤامرات الخارجية، اتفاقيات عالمية لإعادة تقسيم المنطق، التطرف عاد أقوى مما كان. وجزء من ذلك أو حتى كله قد يكون حقيقي، لكن صحته لا تعني الاستسلام، لا تعني العودة إلى أسوأ مما كنا فيه.

ليست مشكلة الانتخابات الجارية في أنها أقرب إلى تمثيلية قرأنا نهايتها قبل بدايتها، ولا بمن سيعود لتصدر المشهد.. الدولة القديمة، الجيش، الفلول، ولا بموقع الإخوان في اللعبة السياسية بعدها، كل تلك المفردات مجرد “راكورات”.. الأمر الأكثر خطورة بالنسبة لي هو أننا تخلينا، كمواطنين، بإرادتنا عن كوننا اللاعب الأهم في المشهد السياسي، والتطور السياسي الذي كان على وشك أن يأخذ مساره الطبيعي تم القضاء عليه، لمصلحة ديكتاتورية لا نعرف ملامحها بعد، أو إلى حد ستقرر التحكم في الأمور، لا ضمانة من الآن لسلطة تتحسس خطواتها خوفاً من حساب، المعارضة تم تهميشها، أو تنازلت واصطفت وراء المشير، لماذا؟ لأن اللحظة حرجة ودقيقة حسبما يقولون. حسناً.. راجع التاريخ لتدرك أن كل اللحظات كانت حرجة ودقيقة ولا بد فيها من الاصطفاف الوطني. أما الأكثر فداحة في هذه الانتخابات وإضافة إلى إنها ليست كذلك بأي معنى، أن لا مقابل هذه المرة تقدمه السلطة للجماهير الصامتة، منذ 52 كان على النظام أن يقدم شيئاً في سبيل تخلي الناس عن دورها، لكن هذه المرة لن يقدم الرئيس الجديد شيئا ولا مؤيدوه يطالبونه بشئ، يقول له القطاع الأكبر من الجمهور.. عد بنا بالزمن إلى ما قبل 25 يناير، نريد أن ننسى.. سنبايعك على هذا.