رئيس الحكومة التونسية مهدي جمعة يدير الأعناق أينما حل بتلك الابتسامة الهادئة في بلد لا يبتسم فيه المسؤولون كثيرا، ربما بسبب أوضاعه الصعبة حكاماً ومحكومين.  

جمعة، 52 عاماً، الرجل الذي كان مغمورا قبل تكليفه منذ حوالي مائة يوم، يتقدّم الآن في عمليات سبر الآراء بأشواط عن سياسيين مخضرمين في تونس، كالباجي قائد السبسي زعيم حركة نداء تونس، والمنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت، فضلا عن كثر آخرين.

مرشّح النهضة

رئيس الحكومة التونسية مهدي جمعة يدير الأعناق أينما حل بتلك الابتسامة الهادئة في بلد لا يبتسم فيه المسؤولون كثيرا، ربما بسبب أوضاعه الصعبة حكاماً ومحكومين.  

جمعة، 52 عاماً، الرجل الذي كان مغمورا قبل تكليفه منذ حوالي مائة يوم، يتقدّم الآن في عمليات سبر الآراء بأشواط عن سياسيين مخضرمين في تونس، كالباجي قائد السبسي زعيم حركة نداء تونس، والمنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت، فضلا عن كثر آخرين.

مرشّح النهضة

منذ التوافق في إطار الحوار الوطني على أن يكون مهدي جمعة وزير الصناعة السابق في حكومة علي العرّيض خليفة له على رأس الحكومة، ما انفكّت حركة النهضة تدعم جمعة في كل التصريحات التي يدلي بها قياداتها، وخاصّة رئيسها راشد الغنوشي، وتشير إلى امكانية تسنمه مناصب عليا في الفترة القادمة ما بعد الانتخابات، على الرغم من أن اتفاق الحوار الوطني يقضي بعدم تقلد رئيس الوزراء أي منصب في الحكومة المقبلة.  

الدعم والمساندة لم يأتيان من فراغ، فخلال جلسات الحوار الوطني والمشاورات العسيرة والطويلة للخروج من الأزمة السياسية الخانقة لم يكن اسم جمعة مطروحا  كغيره من الأسماء، بل كان الإسم “المفاجأة” الذي طرح في الأمتار الأخيرة للحوار. مفاجأة أعدّتها النهضة لخصومها، كورقة رابحة استطاعت أن تخفيها جيّدا حتى النهاية وتفرضها على الجميع كأمر واقع، وبهذا يمكن للمحللين القول إن جمعة بطريقة او بأخرى كان أقرب الأسماء إلى النهضة من خارجها.

ويرى اليوم راشد الغنوشي، زعيم الحزب صاحب الأغلبية البرلمانية، أن جمعة من مرشحي النهضة لتولي رئاسة الحكومة مجددا، فيما لو قبل هو شخصيا بترشيح نفسه، كما سبق وصرح في مقابلة مع موقع “مراسلون”. وعزا الزعيم التاريخي لحركة النهضة موقفه ذلك، بأن تونس تحتاج إلى حكومة تحظى بأوسع توافق سياسي ممكن حتى بعد الانتخابات القادمة.

سياسية الصدمة

في العلن لا يبدو جمعة مدينا للنهضة بشيء، بل إنه عرف في ظرف وجيز، كيف يحصّن حكومته من التجاذبات السياسية ويضع مسافة أمان بينه وبين مختلف الأحزاب، بما فيها النهضة. وتكاد تخلو تصريحاته من أي اصطفاف إلى جانب أي حزب، مركزا على مهمته كقائد عبور إلى يوم الانتخابات.

في المقابل لا يفوّت رئيس الحكومة الجديد أية مناسبة ليكون قريبا من الناس من خلال رسم صورة أنيقة للرئيس، تثير فضول وإعجاب التونسيين.

فمنذ أوّل ظهور إعلامي له كرئيس وزراء قبل نحو ثلاثة أشهرحاول الحفاظ على أقصى حد من الوضوح، فاختار سياسة الصدمة في مواجهة الرأي العام، متحدثا بصراحة عن عمق الأزمة التي تعيشها البلاد، خاصّة على المستوى الاقتصادي. كما حرص على المحافظة على هدوء أعصابه وابتسامته المطمئنة دون أن يتورّط في الوعود، وترك باب الأمل مفتوحا أمام الجميع.

في المقابل يظهّر رئيس الحكومة صورته كرجل معني بحلحلة الأزمة الاقتصادية في أقصر وقت ممكن.

فبعد أيام معدودة من تكليفه انطلق في جولات مكوكية لبلدان الخليج والمغرب العربي ومن ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث استقبل بحفاوة، وآخر زياراته كانت إلى باريس في مطلع أيار/ مايو الجاري.

وفي جميع تلك الزيارات كان الأزمة الاقتصادية على رأس جدول الأعمال، الى درجة أن رئيس منظمة أرباب العمل الفرنسي، بيار غاتاز، خاطبه ممازحاً بالقول: “لغتك قريبة جداً من رجال الاعمال وأنت مثال نأمل أن ينسج عليه حكام فرنسا”.

جمعة الأكثر شعبية

النشاط الدبلوماسي الخارجي لجمعة، والتوجّه نحو البحث عن الدعم المالي والاستثماري الأجنبي، سرعان ما أثار جدلاً بين أطراف سياسية رافضة لهذا التوجّه، إذ رأت فيه نوعا من التسوّل وإهدارا للكرامة الوطنية.

لكن جمعة نبّه بعد عودته من باريس مباشرة الى أن زياراته تأتي في سياق طمأنة الشركاء والأصدقاء والتسويق لصورة تونس الآمنة والمستقرة في الخارج.

ويشير استطلاع للرأي اجراه مركز “سيغما كونساي” المتخصص ونشره في 13 أيار/ مايو الجاري حول نوايا التصويت للانتخابات الرئاسية، أن رئيس الحكومة حصل على نسبة30.1 المائة بين المستطلعة آراءهم، ليتراجع رئيس حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي الى المرتبة الثانية بنسبة 24.2 بالمائة.

أما المرتبة الثالثة فقد احتلها رئيس الجمهورية محمد المنصف المرزوقي بنسبة 9.3 بالمائة ويليه رئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي بنسبة 5.7 المائة، علماً أن جمعة لم يرشح نفسه رسمياً إلى أي منصب مقبل.

دولة الرئيس الذي نجح في الظفر بثقة التونسيين رغم صعوبة الظرف الاقتصادي والاجتماعي رغم تصريحاته غير المريحة في هذا السياق، أصبح يستفزّ عددا من الأحزاب التي باتت تتصيّد أخطاءه وتفتعل الأزمات حول حكومته كما حصل مؤخرا في ما سمّي بأزمة السياح الإسرائيليين (السماح لحجاج إسرائيليين بدخول تونس)، معتبرة أن جمعة يسعى إلى التطبيع مع إسرائيل.

جمعة يتجاهل قصر قرطاج

علاقة رئيس الحكومة برئيس الجمهورية المؤقت تبدو فاترة في مجملها. فرغم المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد لم يلمس الرأي العام في تونس تواصلا حقيقيا بين الرئيسين.

وطوال الثلاثة أشهر الماضية لم يلتق جمعة والمرزوقي إلا نادرا، وفي لقاءات رسمية تحسب على أصابع اليد الواحدة، إلى درجة بدا من خلالها تسيير شؤون الدولة بين قصر قرطاج والقصبة بلا تنسيق وبلا توافق بين أعلى هرمي السلطة، خاصّة وأن منصف المرزوقي، لم تكن علاقته جيّدة برؤساء الحكومة الثلاثة السابقين.

ولم يلتق وزراء حكومة جمعة بدورهم  إلى الآن رئيس الجمهورية ما عدا وزيري الداخلية والدفاع  ووزير الثقافة، وهو ما فسّره متتبعون للشأن العام في تونس بأن أعضاء الحكومة تلقوا تعليمات داخلية صارمة من جمعة فرضت هذا الجفاء تفاديا لأي تداخل في الصلاحيات أو سقوط في فخ التأثيرات السياسية.

ويتوقّع الملاحظون أن تتوتّر علاقة المرزوقي بجمعة مع اقتراب موعد الانتخابات لأن صورة الأخير تشوّش على صورة المرزوقي، رغم ادراك الجميع أن مهدي جمعة لم يعلن عن أي طموحات سياسية كما أن حكومته تعهّدت بأن لا تشارك في الانتخابات القادمة.

ولادة سياسي جديد

هل بامكان جمعة مقاومة بريق السلطة؟ على الأرجح لا. فكل ما يفعله الرجل وخاصّة فيما يتعلّق بالصورة التي يسوّقها للناس، لا يبدو تلقائيا أو عفويا، بل وكأنه صورة مرسومة يهدف من خلالها الى حشد الوفاق الشعبي حوله بعد أن نجح في الظفر بالوفاق السياسي.

فهو سعيد لا شك بأصداء زياراته الأخيرة إلى باريس التي خلّفت انطباعات جيّدة حول رئيس حكومة حيويّ يقابل أهم المسؤولين في فرنسا، ويصرّ على انقاذ بلاده من الوضع الاقتصادي الصعب وتتويج المرحلة الانتقالية الحرجة بانتخابات نزيهة وشفافة.

صورة طعمها مهدي بألوان خاصة وهو يتنقل بكل حرية ودون بروتوكولات رسمية للاطمئنان على أوضاع الجالية التونسية، وركوبه الميترو وتناول وجبة الغداء في مكان متواضع يبيع الأكلة الشعبية الشهيرة في تونس “الفريكاسي” ذات الجذور اليهودية –التونسية، الامر الذي عكس رسالة واضحة إلى التونسيين وإلى اليهود، بأنه قادر على تطويق الأزمة التي أثيرت في تونس حول زيارة السياح الاسرائيليين بمناسبة الحج الى كنيس الغريبة بجربة.

صورة جمعة في زيارته الباريسية، ذكرتنا بتلك الصورة الشهيرة التي اكتشفه من خلالها الرأي العام والتي جمعته بالسفير الألماني السابق في تونس وهو بصدد تناول الغداء في مطعم شعبي يعدّ اللحم المشوي. مشهد بقي راسخا في الأذهان وكان لها تأثير ايجابي ساهم في تقبل التونسيين لجمعة رئيساً للحكومة، رغم أنه كان مجهولا من الجميع كوزير صناعة سابق. 

جمعة لم ينطق بكلمة واحدة إلى اليوم بخصوص مستقبله السياسي، لكن كثيرين يبدون مقتنعين بولادة سياسي من نوع جديد ومن خارج التاريخ الرسمي للحركات السياسية في البلاد.

هذا السياسي بدأت عديد الشخصيات السياسية في تونس تحسب له حساب، وبدأ يواجه منذ أيام الكثير من الألغام الحزبية في المجلس التأسيسي (البرلمان)، حتى باتت بعض الأحزاب تهدّده بالمساءلة وبسحب الثقة من حكومته كحزبي المؤتمر-حزب رئيس الجمهورية – وحركة وفاء، لكن تبقى أحزابا لا وزن مؤثر لها.. وكلمة الفصل تبقى ليوم الانتخابات.