مصطفى كهل في العقد الخامس من عمره أقدم في الأول من شباط/فبراير 2014 على إضرام النار في جسده، بعد حالة من اليأس والقنوط بسبب أوضاعه الاجتماعية الصعبة وعدم تمتّعه بحقوقه كجريح ثورة. فأصيب بحروق من الدرجة الثانية على مستوى أعلى ظهره ووجه ويديه.

مصطفى كهل في العقد الخامس من عمره أقدم في الأول من شباط/فبراير 2014 على إضرام النار في جسده، بعد حالة من اليأس والقنوط بسبب أوضاعه الاجتماعية الصعبة وعدم تمتّعه بحقوقه كجريح ثورة. فأصيب بحروق من الدرجة الثانية على مستوى أعلى ظهره ووجه ويديه.

في ذلك اليوم غادر مصطفى منزله المتواضع بأحد الأحياء الفقيرة بجهة القصرين (وسط غرب البلاد) متجها كعادته في كل صباح إلى مركز الولاية علّه يتمكن هذه المرّة من لقاء الوالي، فيساعده على إيجاد حلّ لأوضاعه الاجتماعية المتأزّمة ويوفر له عملا يقي أبناءه من الجوع ويضمن له كرامته ويعفيه من مدّ يده للجيران والأقارب لطلب المساعدة. “لكن الحاجب منعني كالعادة من دخول مقرّ الولاية متعلّلا بأن الوالي غير موجود”، يقول مصطفى.

غادر مصطفى دون أن ينبس ببنت شفة. كان يجرّ أذيال الخيبة وهو يتجه نحو الحيّ الذي يسكنه، ينتابه شعور عميق بالأسى والمرارة والحنق على كل من حوله.

اسوّدت الدنيا في عينيه وهو يفكّر في أبنائه الخمسة، وخاصة ابنه الكبير الذي أجبرته الظروف على الانقطاع عن الدراسة رغم أنه كان من المتفوقين.

كان مصطفى يفكّر في جوعهم، في ثيابهم الرثّة التي لا تقيهم برد الشتاء، في زوجته التي باتت تتذمّر على الدوام من ظروفه الصعبة.

توقّف لحظة وكأنه يستجمع شجاعته، نظر حوله فرأى في آخر الشارع أحد بائعي البنزين المهرّب من الجزائر يعرض بضاعته في أوعية بلاستيكية على قارعة الطريق. تقدّم نحوه بخطوات وجلة، كان يستمع إلى دقّات قلبه المرتفعة لكن ذلك لم يثنه عما عقد العزم على تنفيذه.

اقتنى مصطفى قارورة بنزين بآخر مبلغ مالي كان يحتكم عليه في جيبه، وانصرف في اتجاه مقهى الحيّ.

في الطريق بدا هادئا وهو يسير بخطوات متثاقلة، أشعل على مهل آخر سيجارة في جيبه وبدأ ينفث دخانها بتمهّل وكأنه يرتشف منها آخر متعه الممكنة في حياة قاسية لم ترحمه يوما. حياة أذلّته وأبكته منذ نعومة أظافره، منذ أخذ الموت منه والدته وهو لم يدرك بعد سنواته العشر ولحق بها والده وعوده لم يشتدّ بعد.

تربّى يتيما ومحتقرا في بيت عمّه الذي أجبره على العمل في مقاطع الحجارة منذ صغره، كما أجبره على الزواج من ابنته رغم أنه لم يحبها يوما. كان يسير وذكريات الماضي الأليم تعبر مخيلته وتجلده بسياط الألم والمعاناة.

ملامحه الممتقعة والجامدة ونظراته الزائغة أثارت اهتمام أحد جيرانه الذي اعترضه في أحد المنعرجات وتوقّف ليسأله “مصطفى ما بك؟ ..هل الأولاد بخير؟” .

لم يجب مصطفى وواصل سيره منكّس الرأس، وعندما بلغ مقهى الحي توقّف أمامه يمعن النظر فيه، تذكّر أيام الثورة عندما تحوّل المقهى إلى قاعدة ميدانية لأبناء الحيّ للقاء والخروج في مظاهرات حاشدة عادة ما تنتهي بمواجهات دامية مع قوّات الأمن المتمركزة في آخر الشارع.

لحظتها شعر مصطفى وكأن الزمن يعود به إلى الوراء، إلى يوم 7 كانون الثاني/يناير 2011 ، يوم الانتفاضة الشعبية لمدينة القصرين، عندما خرجت الآلاف لتحدي القمع الأمني وتطالب برحيل الطاغية. كان يومها يتقدّم حشود الغاضبين والسماء “مغيمة” بالغاز المسيّل للدموع، كان مؤمنا فعلا بعدالة الثورة التي ستنصف المحتاجين والمهمشين وستصنع ربيع الجهات المنسية والمحرومة كجهة القصرين. لحظتها سمع نفسه وهو يصرخ بصوته الأجشّ: “خبز وماء ..وبن علي لا”، “شغل..حرية ..كرامة وطنية”

ابتسم بمرارة وهو يتذكّر أيام النضال، ويقارنها بالحاضر المقيت. ابتسم مرّة أخرى بتهكّم وتمتم كأنه يحادث نفسه “لقد هرب بن علي..لكن الخبز والماء بات أمنية بعيدة المنال”. اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يقول وكأنه يهذي “أجل  الكرامة ..ثورتنا ثورة كرامة ..لكن أين كرامتنا ..نريد بعض الكرامة”.

لا شعوريا رفع يده ليتحسّس الجرح الغائر في كتفه، هذا الجرح الذي تسببت فيه شظية رصاصة غادرة، إبان أحداث الثورة، الجرح كان عميقا واستوجب الاحتفاظ به في المستشفى لأكثر من أسبوع.

وعندما غادرها كان بن علي هرب فعلا إلى خارج البلاد وتم تصنيف مصطفى اجتماعيا كجريح ثورة شارك بشجاعة في الاحتجاجات الشعبية. كان يشعر بالفخر والنخوة حينها ويعتقد فعلا أن الأوضاع ستتغيّر نحو الأحسن بعد أن افتدى الشعب حريته بالدمّ.  

صرخ مصطفى فجأة و بقوة في الجموع المنهمكة داخل المقهى في لعب الورق، وهو يرفع قارورة البنزين بيده اليمنى ويهم بسكبها على رأسه بينما يده اليسرى تبحث في جيبه على الولاّعة :”الموت ولا حياة الذلّ..اللهم سامحني و أعفو عني..الموت ولا حياة الذلّ”.

انتبه روّاد المقهى الى ما كان مصطفى بصدد القيام به، هبوا جميعا خارج المقهى، صرخ أحد الشيوخ: “مصطفى هل جننت؟..ماذا تفعل يا ولدي؟..حرام ما تفعل..فكّر في أبنائك يا رجل”.

“كنت أسمع تلك الأصوات التي ترجوني لكي أعدل عن حرق نفسي، وكأنها تأتي من بعيد، من عالم آخر”، يقول مصطفى.

ويضيف: “لم أكن أشعر أو أفكر في شيء الاّ في الموت ووضع حدّ لعذابات كل سنوات الماضي”. يشرد قليلا ثم يواصل سرد تفاصيل الواقعة “كنت واعيا وأنا أقرّب الولاعة من ثيابي المبللة بالبنزين، لم أكن خائفا.. وفجأة اشتعلت النيران في أكمام القميص..نعم شعرت بالنيران تلتهم يدي ورقبتي..لكن ألمي الداخلي والنفسي كان أعمق من آلام لحمي المحترق..عندما تذكّرت أطفالي، أصبحت أصرخ بشدة من الألم الذي سرى في ذراعي ..بعد ذلك لا أذكر شيئا إلا أن هناك من ارتمى عليّ وأسقطني أرضا وهو يدثرني ببرنوس (لباس تونسي تقليدي) ثم غبت عن الوعي”.

محاولة الانتحار حرقا الذي أقدم عليها مصطفى كلّفته شهرا كاملا وهو طريح الفراش بمستشفى الحروق البليغة في تونس، في غرفة قريبة من الغرفة التي فارق فيها محمّد البوعزيزي مفجّر الثورة التونسية الحياة كما يقول.

نجا مصطفى من الموت المحقق بأعجوبة ولم يسفر الحادث إلاّ على حروق من الدرجة الثانية على مستوى ذراعيه وأعلى صدره وأسفل خدّه الأيمن، لكن معاناته النفسية والاجتماعية ما تزال مستمرة.

يقول “نعم أنا فاشل ..لقد فشلت في تحقيق كل أهدافي في الحياة ..فحتى الموت الذي اشتهيته رفضني..لقد أصبحت مشوها اليوم، حتى زوجتي وأطفالي يخافون من النظر إلى ندوبي وحروقي..كما أني أصبحت عاجزا عن تحريك ذراعي بسهولة”.       
يبقى مصطفى رقما في ظاهرة تكتسح تونس منذ ثورة الياسمين، ظاهرة وضع لها محمّد البوعزيزي نقطة البداية لكن إلى الآن تتواصل ضحاياها.

قبل مصطفى عمد مئات التونسيين لحرق أنفسهم انتقاما من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية وخيانة السياسيين لمطالب المهمشين والمحرومين كما فعل ذات صباح من شهر آذار/مارس 2013 الشاب عادل الحضري أصيل إحدى القرى المنسية بالشمال الغربي.

عادل نزح إلى تونس العاصمة بحثا عن ثمن رغيف الخبز له ولعائلته لكنه لم يظفر بأي عمل واضطر إلى بيع السجائر في شوارع العاصمة وأنهجها الكبرى، لكن هذا العمل ورغم مشقته في التجوال يوميا على القدمين الاّ أنه لم يوفّر له حتى أدنى حاجياته وحاجيات أسرته المتكونة من أب مقعد وأم لا تملك عملا وأربع شقيقات.

توفيق ابن عم عادل، والذي كان يستضيفه أحيانا للنوم عنده قبل انتحاره يقول أنه أراد مساعدة عادل في توفير عمل لائق لكن كل الأبواب انسدّت في وجهه، كما أخبرنا أنه حاول الاتصال بأكثر من مسؤول لكن في كل الوزارات التي قصدها كان يتم طرده.

يصمت توفيق قليلا ويضيف: “الليلة التي سبقت عملية حرق نفسه زارني في الغرفة التي استأجرها ولكنه جلس قبالتي شاردا وحزينا وقد أردت أن أهوّن عليه ودعوته الى النوم عندي ولكنه رفض العرض وغادر في منتصف الليل وقد رفض أن يتناول حتى العشاء. بعد ذلك لم أره إلاّ وجسده متفحّم أمام المسرح البلدي في شارع الحبيب بورقيبة”.

علم توفيق لاحقاً أن ابن عمه أمضى ليلته في محطة الحافلات، ومنذ الفجر عرّج على محطة وقود واشترى قارورة بنزين ثم اتجه إلى أمام المسرح، وعندما بدأت الحركة تشتد في الشارع الرئيسي للعاصمة، بدأ يصرخ بأعلى صوته ثم سكب البنزين على جسده وهو يخطب في الناس: “انظروا إلى نهاية الشاب الفقير انظروا إلى نهاية بائع السجائر..انظروا ولا تنسوا المشهد..أنا اليوم ألحق بالبوعزيزي”. لذلك أطلقت الصحافة اسم “البوعزيزي 2” على عادل الذي فارق الحياة بعد أسبوعيين  من حرقه لنفسه متأثرا بحروقه البليغة.

منذ أيام كذلك بجهة “الكرم” شمال العاصمة عمد وجدي الذي يبلغ من العمر 14 عشرة سنة إلى حرق نفسه، بعد خصومة مع والدته على مصروف الجيب. وهو إلى الآن يرقد بمستشفى الحروق البليغة، وتقول عائلته أن إصاباته بليغة.   

الأرقام الرسمية التي تحصّلت عليها “مراسلون” من وزارة الداخلية تبدو مفزعة، فمنذ سنة 2011 وحتى الستة أشهر الأولى من سنة 2013بلغ عدد من انتحروا حرقاً 194 شخصا تتوزّع على 91 حالة في 2011 و63 حالة في 2012، و40 حالة في 2013.

أمّا بالنسبة لمن حاول الانتحار حرقا وفشل في قتل نفسه مثل مصطفى، فقد أبرزت الإحصائيات نفسها ان عددهم خلال نفس المدة بلغ 271 حالة موزّعة على 112 في 2011، 99 في 2012 و60 حالة خلال النصف الأوّل من سنة 2013

أما حالات سكب البنزين على الجسد دون إضرام النار فبلغت 284 حالة موزّعة على 123 حالة في 2011، 87 حالة في 2012، 74 حالة في 2013.

ما يعني أن مجموع الحالات من 2011 إلى 2013 من الانتحار حرقا أو المحاولة بسكب البنزين وإضرام النار أو بسكب البنزين فقط بلغت 749 حالة.

ويؤكد المختصون في علم النفس والاجتماع في تونس أن الانتحار على الطريقة “البوعزيزية” (نسبة إلى محمّد البوعزيزي) أصبح ظاهرة بأتم معنى الكلمة، ضحاياها من الشباب والكهول الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و40 سنة. ويلجأ التونسيون في تقدير المختصين إلى هذه الطريقة “الاستعراضية” في الموت لأن فيها بعدا رمزياً ظهر من خلال قصة الثورة التونسية، ومن ثم انتقل إلى دول عربية أخرى بات الاحتجاج فيها يعبر عن نفسه من خلال النار.