الباب الرئيسي مفتوح على مصراعيه، انتظمت أمامه طاولات ذات كراسٍ صغيرة. فضاء صغير لا تتجاوز مساحته المئة متر مربع تقريبا، يتكون من قاعة عروض تتسع لمئة وثلاثين متفرجا وبهو متكون من مكتبة ومشرب.

في المقابل تنتصب  بطحاء الحي، وهي ساحة تستغل قبيل أيام عيد الاضحى في ممارسة مناطحة الأكباش، هواية توارثها أبناء الحي منذ زمن طويل لكنها تتحول اليوم الى فضاء لاستقبال عدد أكبر من المتفرجين لفائدة عروض مسرح “مسار”.

الباب الرئيسي مفتوح على مصراعيه، انتظمت أمامه طاولات ذات كراسٍ صغيرة. فضاء صغير لا تتجاوز مساحته المئة متر مربع تقريبا، يتكون من قاعة عروض تتسع لمئة وثلاثين متفرجا وبهو متكون من مكتبة ومشرب.

في المقابل تنتصب  بطحاء الحي، وهي ساحة تستغل قبيل أيام عيد الاضحى في ممارسة مناطحة الأكباش، هواية توارثها أبناء الحي منذ زمن طويل لكنها تتحول اليوم الى فضاء لاستقبال عدد أكبر من المتفرجين لفائدة عروض مسرح “مسار”.

لم يتوقع مهدي نصر الله بطل هذه المسرحية أن يغير هذا المكان حياته قبل ثلاث سنوات بهذه الطريقة الفجائية، فمع عرض أول مسرحية له في فضاء “مسار” في العاصمة تونس انتهى حلمه القديم المتمثل في “الحرقة” أي الهجرة السرية إلى أوروبا.

عندما التقيناه كان يتنقل مسرعاً لتهيئة المكان. يدقق في وضعية مكبرات الصوت. يخيل للزائر بأنه صاحب الفضاء، لكنه كغيره من أهالي الحي منشغل بتحضيرات العرض، لا يتوانى عن تقديم المساعدة لمالك المسرح المخرج صالح حمودة الذي منحه الأمل في أن يغير نفسه.

“الباش” هو العنوان الذي اختاره المخرج للعرض الجديد الذي ينقل متاعب المهاجرين السريين وعائلاتهم وأوطانهم. وأصل المصطلح “ريح الباش” متعارف عليه لدى البحّارة بأنه الريح التي يكون اتجاهها نحو أوروبا.

وتعاني تونس بشكل كبير من معضلة الهجرة السرية. وحسب دراسة قام بها المنتدى الاقتصادي والاجتماعي التونسي (منظمة غير حكومية) بلغ عدد المهاجرين السّريّين من التّونسيّين 40 ألفاً منذ ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011، بينهم 5400 شابّ ابتلعتهم أمواج البحر.

أجواء الطفولة تعود

مهدي نصرالله هو ابن هذا الحي، معروف في الحيّ  بـ “مهدي كعبورة” لقصر قامته. ترتسم على وجهه آثار خدوش قديمة، أسنان تداعت مبكرا بسبب الافراط في الشرب. لم يتجاوز السادسة والعشرين سنة، شبابه أهدره بين الحي والسجن، بعد انقطاعه في سن الثالث عشر عن الدراسة.

يسرد لـ “مراسلون” مدى تأثير مسرحية “الباش” على حياته، “كان حلمي الوحيد هو الهجرة إلى إيطاليا بشتى السبل، وغامرت مرتين بالحرقة لكن محاولاتي باءت بالفشل”.

يتحدث ويداه لا تكفان عن العمل، “أستحضر وأكرر مشاهد المسرحية حتى وأنا امشي في الطرقات. أتمتم والناس تنظر إلي باستغراب، كأني أراها الآن، فهذه المسرحية تنقل تجربة عشتها بشكل شخصي” .

أحداث المسرحية تشبه إلى حد كبير الأجواء التي عاش فيها مهدي طفولته. فهي قصة مجموعة من الشبان الذين قرروا الهجرة عن طريق البحر، حدثت قبل 15 عاماً في “حي الدرابك”، أحد أكبر الأحياء الشعبية في مدينة صفاقس (جنوب تونس)، وهو أيضا أبرز نقاط انطلاق الهجرة السرية من تونس باتجاه أوروبا.

من الانحراف إلى التمثيل       

يعتبر مهدي أن مسرحية “الباش” كانت نقطة تحول في حياته وأطلقت عنان موهبته في ممارسة التمثيل. يتوقف لبرهة عن العمل لإشعال سيجارته ليستكمل سرد قصة حياته “اشعر بالأسى لعدم مواصلتي الدراسة فالفقر والجهل عبثوا بي”.  

ويواصل “أدمنت المخدرات كغيري من شباب الحي منذ صغري، أفرطت في شرب الكحول إلى حد الإدمان. دخلت السجن عديد المرات بسبب المخدرات وإثارة المشاكل. هكذا حالنا نحن شباب الاحياء الشعبية، نرغب في الهروب من واقعنا، من فقرنا ومن حياتنا”.

[ibimage==12590==Small_Image==none==self==null]

CAPTION

الساعة تجاوزت الخامسة مساء، حين بدأ المتفرجون يتوافدون على المسرح. يسارع مهدي في وتيرة العمل من أجل استكمال التحضيرات. يصرخ بصوت ساخر: “حضر المشاهدون ونحن لم نجهز بعد”.

يحدق مهدي في عينيّ  مشيراً بكف يده الى الوفود القادمة الى العرض: “هل شاهدت يوما عرضا مسرحيا داخل حي شعبي؟”.

لم يحضر مهدي من قبل عرضا مسرحيا، فسعر التذاكر في تونس يتجاوز الخمسين دينارا، لكنه مقتنع أن بامكانه أن يكون ممثلاً ناجحاً، “ممثل صاحب سوابق”، يصف نفسه ويضحك.

الأهالي ينفرون من الفكرة 

قصة “مسار” بدأت قبل ثلاث سنوات عندما اتى مخرج مسرحي شاب لاستئجار مستودع للسيارات بالحي. توجس وترقب تزامن مع أشغال البناء الحاصلة في “الكاراج”. “الجميع تساءل يومها إلامَ يتحول مستودع للسيارات؟”، يقول مهدي.

في البداية لم يتقبل سكان الحي – خاصة الشباب-  تشييد مسرح وسط بيوتهم. رفضوا هذا النشاط الدخيل، فكانوا يتربصون بصاحب الفضاء لحمله على الابتعاد عن الحي ونقل هذا المسرح عنهم، لكن نفور الأهالي لم يزد المخرج صالح حمودة إلا إصرارا على تقريب المسرح للناس.

رويدا رويدا استطاع صالح استدراج سكان الحي لمسرحه بفضل نشاطاته وعروضه المجانية إضافة الى إشراكه أبناء الحي في تقديم بعض العروض المسرحية لتصبح علاقة هجينة بين الثقافة والحي الشعبي.

لم يعد هنا المسرح يرمز الى برج عاجي وتذاكر مرتفعة الثمن لأبناء الطبقة الوسطى المدينية، بل أصبح المخلص لمشاكل شباب لم يجدوا فرصا لتحقيق ذواتهم.

مهدي كعبورة كان من بين شباب الحي الذي أتيحت لهم الفرصة للخروج من مستنقع الانحراف والالتحاق بركب عالم التمثيل. ولازال الى اليوم يتذكر تلك اللحظات الاولى عندما وطأت قدماه خشبة المسرح في مسرحية “حظر تجول”. “بروفات وتدريبات وأجواء لم أتعود عليها سابقا”.

مسرحية “حظر التجول” كانت التجربة الأولى، وكانت تجسيدا لأحداث الثورة التونسية، وكان طاقم التمثيل شباب حي “بالدوف” الذين كانوا شهود عيان لثورة شباب تونس.

تونس تتفس ثقافة

يتوسط صالح حمودة جيرانه، يتبسم للوفود القادمة، يمازح الجميع. مزيج من الحب والغرابة بين شاب نخبوي تجاوز الثلاثينات، وأبناء طبقة شعبية التفوا حوله بسعادة ليخبرهم عن اسماء الفنانين المدعوين للعرض.

يقول صالح لـ”مراسلون”: “أسعى الى تقريب الفن من متساكني العمران، باب سعدون، الجبل الاحمر، الملاسين، والأحياء المجاورة للفضاء (جميعها أحياء شعبية بالعاصمة)”.

يسترسل صالح في حديثه عن حلمه “مسار”: “تخيلوا معي أن يتذوق شباب الاحياء الشعبية المسرح الحديث أو التجريبي فحينها فقط نقطع مع الظلامية والاحادية في التفكير التي اصبحت تهدد شبابنا وابنائنا”.

ويعتبر صاحب فضاء “مسار” أن طاقة الشباب تهدر إما في الانحراف كتعاطي المخدرات أو في التطرف الديني أو الهجرة السرية، “فأن تكون من شباب الاحياء الشعبية ليس أمامك خيارات كثيرة، إما مشروع منحرف أو مشروع إرهابي أو مشروع غريق”.

ويعتقد صالح أن هناك أموال طائلة توظف في الاحياء الشعبية الفقيرة لتحويل شبابها إلى متطرفين دينيا.

ويقدر عدد السلفيين بـ20 ألف بالعاصمة تونس استنادا الى تقرير آرون زيلين خبير الشؤون التونسية بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. وتعتبر الأحياء الشعبية ملاذا لبعض الأطياف الدينية المتشددة ومن ابرز هذه الأحياء حي التضامن والانطلاقة ودوار هشير والكبارية والملاسين، العمران وغيرها من الأحياء الفقيرة.

ابنته الصغيرة تقطع حبل أفكاره وهي تجذبه من أجل أن يحملها، لكي تشاهد خشبة المسرح التي حجبتها حشود الوافدين من مختلف الأحياء.

يداعب صالح ابنته للحظة قبل مواصلة حديثه “لقد كبر مشروع فضاء مسار رغم  حداثته، والآن يحظى بإقبال شعبي كبير”.

بناء المسرح مفتوح على الشارع ما يجعله في طريق المارة الذين قد يقبلون على الدخول من باب الفضول والاستكشاف. ويتنوع الزوار ما بين العامل والموظف والطالب وربة المنزل وغيرهم من أهالي ألمنطقة كما أن صغار السن يقبلون بشكل كبير.

ولا يتجاوز الدعم المادي الذي تقدمه وزارة الثقافة التونسية و15 ألف دينار تونسي في السنة (حوالي 10 آلاف دولار). ويعتبر صالح هذا المبلغ بسيط جدا لانه لايغطي تكاليف العروض التي يقدمها، لكن ذلك لم يمنعه من  التمسك بحلمه.

حومتنا فنانة

[ibimage==12584==Small_Image==none==self==null]

اقترب موعد العرض

اقترب موعد العرض. يبتسم صالح متنفسا الصعداء مع قدوم  شخص استثنائي، إنه عم عليّ الذي لا يكتمل العرض إلا بقدومه. هذا الشيخ المسن الذي أصر على الجلوس في المقاعد الأمامية لمشاهدة المسرحية بوضوح.

هذا الشيخ الذي يناهز عمره الستين لايفارق فضاء “مسار” إلا ساعات النوم، وهو يفتخر بوجود هذا المسرح ويعده كمعلم ثقافي مميز للحي.

يحدثنا عم علي عن مسرح مسار باعتزاز “لقد أنار مسار ليالينا القاتمة والروتينية. عالم كان عنا أبعد من السماء لكننا اليوم نشاهد العروض مباشرة في بطحاء حينا فهل تصدقون؟”.

انحنى مهدي ليهمس لصالح حمودة ويخبره بانتهاء التجهيزات وأنه حان الوقت لإعلان بداية العرض. يرفع صالح يده في إشارة الانطلاق. يخيم الصمت داخل وخارج المسرح. يخرج الممثلون من وراء الستار لينسجوا فصلا جديدا من فصول الحياة على خشبة المسرح وخشبة الحيّ.