تحت ما تبقى من سعف نخلة ماتت قبل أن يستقيم طولها، جلس فتحي عبد الهادي كعادته كل يوم متحسراً على مزرعته الواقعة في واحة اجخرة (400 كلم جنوب غرب بنغازي)، والتي ماتت نخلاتها الخمسمئة أمام عينيه، منذ تم حفر بئر نفط على مرمى حجر منها.

يقول عبد الهادي إن النخلات ماتت بسبب الأدخنة والغازات السامة المنبعثة من البئر، وإن أمله في إعادة الحياة لمزرعته التي ورثها عن والده أصبح ضرباً من الخيال، مختتماً قوله بعد أن وضع يديه على جنبيه “يلطف الله وخلاص”.

تحت ما تبقى من سعف نخلة ماتت قبل أن يستقيم طولها، جلس فتحي عبد الهادي كعادته كل يوم متحسراً على مزرعته الواقعة في واحة اجخرة (400 كلم جنوب غرب بنغازي)، والتي ماتت نخلاتها الخمسمئة أمام عينيه، منذ تم حفر بئر نفط على مرمى حجر منها.

يقول عبد الهادي إن النخلات ماتت بسبب الأدخنة والغازات السامة المنبعثة من البئر، وإن أمله في إعادة الحياة لمزرعته التي ورثها عن والده أصبح ضرباً من الخيال، مختتماً قوله بعد أن وضع يديه على جنبيه “يلطف الله وخلاص”.

يلوم عبد الهادي بشدة وسائل الإعلام، التي يقول إنها مقصرة في نقل معاناة أبناء واحته، التي تضررت كافة سبل الحياة فيها بسبب انتشار آبار النفط، وإهمال الشركات لشروط السلامة الصحية والبيئية في غياب أي رقابة على أدائها.

أمراض جلدية

يقول سكان اجخرة الذين يتجاوز عددهم خمسة آلاف نسمة وينتمون جميعاً إلى قبيلة واحدة هي قبيلة الزوية، إنهم يعانون من كارثة بيئية ألمت بالحرث والنسل، نتيجة لمخلفات البترول التي أرهقت الحياة بجميع تفاصيلها، كما يتحدثون عن انتشار أمراض جلدية وتنفسية.

أثناء جولة “مراسلون” في الواحة كانت حفارات البترول تنتشر ضاربة جذورها في أعماق تربة لم تعد صالحة للزراعة، وبالإمكان في الصباح الباكر بالذات ملاحظة ما تحدث عنه السكان، فعراجين التمر متلفعة بغشاء أبيض زيتي يتلاشى مع شروق الشمس.

كذلك يمكن رؤية مادة سوداء أشبه بالسخام عالقة في الثياب المنشورة على شرفات المنازل، وبرك قد تظنها للوهلة الأولى مياه صرف صحي فيتضح لك أنها مكبات لمخلفات نفطية.

مناشدات ودعاوى

أبو بكر احطيبة رئيس المجلس المحلي للواحة يملك قائمة طويلة من المراسلات والمناشدات التي تقدم بها لكل من هم في موقع المسؤولية على حد قوله، فضلاً عن ملف يحوي العديد من الدعاوى القضائية والشكاوى المقدمة ضد بعض الشركات العاملة في التنقيب عن النفط داخل الواحة.

وقال في حديثه لـ “مراسلون” إن الواحة تعاني من مشاكل كثيرة في بنيتها التحتية وفي الخدمات العامة التي تعتبر من أبجديات العيش الكريم رغم أن “ثلثي نفط ليبيا يخرج منها”، وتساءل مستنكراً “هل يجب علينا الاعتصام وإغلاق الحقول النفطية حتى يلتفتوا إلينا، ترى ما حجم الكارثة التي ينتظر المسؤولون حدوثها كي يجدوا لنا حلاً؟”.

وتقع واحة أجخرة ضمن ما يعرف بواحات الهلال النفطي في ليبيا والتي تنتج ما مجموعه 85٪ من النفط لليبي، معظمه يستخرج من الحقول القريبة من الواحة، كحقول النافورة ومسلة وماجد التي تنقب فيها شركة الخليج العربي، وحقل “اجخرة” وتنقب فيه شركة ونترشال الألمانية، وحقل “آمال” وتستثمره شركة فيبا
الإيطالية.

مرض جديد

احطيبة رافق “مراسلون” في جولته بالواحة التي أينما يممت وجهك فيها ترى بئراً نفطياً، حتى وجدنا أنفسنا أمام مبنى متهالك بالكاد استطعنا قراءة المكتوب على لافتة باهتة أعلى بابه الرئيسي، لنعلم أنه المستوصف الوحيد بالمنطقة.

لم نجد في المستوصف سوى طبيب واحد كوري الجنسية، في غرفة متآكلة جدرانها من أثر الرطوبة، مكتوب على بابها “طبيب عام”، وثلاث ممرضات من الجنسية نفسها يحمن في أرجاء العيادة التي تشبه في شكلها العام البيوتات الليبية التقليدية.

روى الطبيب بعربية ركيكة أن هناك حالات طفح جلدي منتشر بين سكان الواحة، “وهذا النوع نستطيع معالجته ولكن في الآونة الأخيرة ظهرت بعض الحالات لمرض جلدي لم أعرفه من قبل”. ووصف الطبيب أعراض المرض بحدوث احمرار وتهيّج في المساحات الجلدية المكشوفة عند بعض الأطفال دون سن العاشرة، ولم يفلح معها أي دواء في المستوصف، مما اضطره إلى إحالة هذا النوع من الحالات إلى مستشفيات بنغازي.

غرقت في المكب

بعد خروجنا من المستوصف أخبرنا رئيس المجلس المحلي عن حادثة وقعت قبل قرابة أربعين عاماً،لامرأة غرقت في مكب نفايات نفطية، ومن فوره اتصل بأبنائها الذين وافقوا على ملاقاتنا في مكان وقوع الحادثة التي لا زالت تؤثر فيهم كثيراً.

توجهنا إلى مكان لا زرع فيه أو ماء ولا ملامح لأي نوع من الحياة، ليلتحق بنا بعد وقت قصير رجلان في العقد الخامس من العمر غزا الشيب رأسيهما، أكبرهما هو الحاج علي والآخر الحاج أحمد المعروفان بأبناء سعد الله.

حدثنا الأخ الأكبر حول المكان الذي كان في بداية السبعينات من القرن الماضي مكباً للنفايات والمخلفات النفطية، وفي أحد الأيام صباحاً “خرجت والدتنا تحتطب في يوم عاصف حتى اقتربت من مكب المخلفات، ولكنها لم تنتبه له بسبب الطبقة الترابية التي كانت تغطي سطح المكب، وبسبب عدم وجود أية لافتة أو علامة تحذيرية، وبمجرد أن وطئت قدماها طرف المكب حتى غاصت فيه إلى صدرها”.

يسترسل الحاج علي في حديثه وهو يتمشى حول المكب الذي تم ردمه بعد الحادثة، ويقول “عندما غابت أمنا فترة طويلة واقترب وقت غروب الشمس خرجنا للبحث عنها، وقد قادتنا إجابات الناس إلى هنا، لنجد أمنا غارقة حتى صدرها في نفايات النفط، تخيل لو أنك غارق في مثل هذه النفايات لتسع ساعات ولا تستطيع فعل شيء”.

ثم تدخل أخوه أحمد ليقول “بعد إخراجها من المكب تدهور وضع أمنا الصحي وساءت حالتها النفسية كثيراً، وأصبحنا نستيقظ على صراخها في الليل وهي تقول “راني نغرق طلعوني”، وبالرغم من عرضها على أطباء عدة لم يُجدِ معها أي علاج”، وقال في نهاية حديثه “الله يرحمك يا أمي فاطمة”.

في نهاية تجوالنا مع رئيس المجلس المحلي للواحة بسيارته الصحراوية، صعد بنا أعلى تلة رملية، حيث لاح لنا منظر الواحة الجميل، وبدا واضحاً فيه كيف أن النخيل المزروع على مسافات أبعد من آبار النفط لا زال محتفظاً بصحته، فيما مات كل النخيل القريب من الآبار، وتساءل حطيبة بحرقة “بالله مش حرام تموت الواحة قدام عيوننا؟”.

ربما فقد عبد الهادي الأمل في إعادة إحياء مزرعته، لكن إمكانية إنقاذ ما تبقى من نخيل الواحة التي فيها ما يقارب المليون نخلة لا زالت قائمة، وإيقاف ضخ الغازات السامة التي ربما تكون سبباً في الأمراض الجلدية التي تحدث عنها طبيب الواحة ضرورة قائمة، كما أن تعويض المتضررين هو حق قانوني سيظل قائماً.