“الإرهابي” أبو قصي، الذي استضافته قناة “التونسية” الخاصة في حلقة تلفزيونية منتصف آذار/مارس 2014 من برنامج “لاباس”، تمكن من تحقيق أعلى نسب مشاهدة مرتفعة على موقع اليوتيوب في تونس، لكن ذلك سبب له مشكلات لم تكن في الحسبان.

“الإرهابي” أبو قصي، الذي استضافته قناة “التونسية” الخاصة في حلقة تلفزيونية منتصف آذار/مارس 2014 من برنامج “لاباس”، تمكن من تحقيق أعلى نسب مشاهدة مرتفعة على موقع اليوتيوب في تونس، لكن ذلك سبب له مشكلات لم تكن في الحسبان.

حضر أبو قصي ملثّماً على هيئة إرهابي، وعرّفه مقدم البرنامج بأنه “جهاديّ آتٍ من سوريا”. إخفاء وجهه زاده قرباً من شخصيّة المقاتل الخفيّ الذي يخشى أن ينكشف أمره بين معارفه في محافظة القيروان. السترة الشبيهة بسترات المقاتلين أقنعت المشاهدين بصدقيّة قصته، وهم يتابعون في مساء سبت بارد ممطر اعترافات غير مسبوقة لمقاتل قادم من بلاد الحرب والدمار. وزادهم إثارة وتشويقا وصف معدّ البرنامج المقابلة بـ”السبق الصحفي”.

إجابات الضيف الملثّم، كانت مستفيضة ومسترسلة، تسبق أحيانا سؤال الصّحفي. والتفاصيل المدعومة بالأمثلة وأسماء الشخصيّات التي شاركها القتال وحاربها، والأماكن التي زارها، والأسلحة التي استعملها، لم تترك للمشاهد فرصة لا لتبديل القناة ولا لدحض روايته.

أمّا حالة التردّد والإرباك فقد اختفت في طيّات ما رواه عن “علاقته بزعماء القتال ودورهم في التّدريب والتّمويل وفي “جهاد النكاح”، وهو المصطلح الّذي صار رائجا ومثيرا للجدل بعد تصريحات وزير الدّاخليّة التونسي نهاية العام الماضي حول “سفر 13 فتاة من تونس إلى سوريا بهدف ممارسة جهاد النكاح”.

روايات من رحم المعركة

مشاهد ساخنة مثيرة قدّمها “الملثّم” وصور ميدانيّة لأحداث ووقائع لا يمكن أن يعلمها سوى مقاتلين أو قادة ميدانيّين.  

كان مثل حاسوب بذاكرة قويّة وهو يروي الأحداث والأسماء، شادّا بمغامراته وفنون القتال والتخطيط الّتي مارسها انتباه مشاهديه. سريع البديهة حاضر الجواب، دقيق التفصيل، فلا يكاد مقدّم البرنامج ينهي السؤال المدوّن بلائحته، حتى يطلق ضيفه سيلا من المعلومات ووابلاً من الكلام عن الرشّاش الّذي استعمله في مواجهة 15 مقاتل هزمهم وحده، متعرضاً لإصابات طفيفة.

لم يكن البرنامج المسجّل قبل يومين من بثّه يسمح بالتّفاعل مع المشاهدين. ولكن الهواجس وردود الأفعال الّتي أثارها حوّلت المواقع الاجتماعية إلى فضاء لتبادل المواقف من رواية الجهادي “أبو قصي”.  

اللّثام والصدمة

ما كاد “أبو قصي”، يتمّ روايته القتاليّة في سوريا، حتّى تفطّن إليه أقاربه في القيروان. فقد تقاسم شقيقه طالب الطب في تونس العاصمة، الصدمة مع شقيقته المقيمة في ألمانيا. وأفضت شبكة الإتصال بين شقيقيه ووالدته مريم ووالده أحمد وجدّته وخاله وبعض جيرانه وزملائه في العمل، إلى كشف هويّة من يختفي وراء اللّثام. وكانت نبرة صوته وحركات يديه وبعض تفاصيل حياته، مثل مهنته وحرفته، أدلّة دامغة.

الإرهابي المزعوم لم يكن سوى الشاب أيمن مطاوع، 31 عاماً، أعزب، يعمل حارساً ليلياً في مؤسسة تعليميّة بالقيروان.

بنية أيمن الجسديّة لا تلائم شخصيّة المقاتل البطل القاتل الشرس الّذي ينتصر في كلّ المعارك. وخجله وهو يتردّد في الاعتراف بعلاقته بـ”جهاد النكاح” لا ينفصل عن خجله من النّساء. ولم يكن لـ”أبو قصي” أولاداً، كما أنه لم يتعرف على إمرأة في حياته، كما قال فيما بعد.

طيبته يستغلّها من حوله، بمن فيهم والدته الّتي تستحوذ على مرتّبه على حد قوله، ويستغلّها زملائه في العمل بتحويله إلى “مهرج” وهم يلبسونه ملابس الزعيم الليبي معمّر القذافي، وتزيد عليها والدته صفة “المريض النفسي” الّذي تعرض إلى جراحة في منطقة الرأس في طفولته، وزعم في البرنامج التلفزي أنّها آثار إصابة لشظيّة قنبلة.

عزلة وانتقام

يوم الأحد 16 آذار/مارس، بعد يوم من عرض البرنامج، لم يكن عاديّا في منزل أيمن. فالشاب الملثّم الذّي حطّم أعلى نسب المشاهدة على موقع اليوتيوب في تونس، تحوّل إلى مطلوب لدى فرقة مجابهة الإرهاب ومفتّش عنه من قبل أسرته وأقاربه وأصدقائه، وسلفيّون أغضبتهم تصريحاته. يومها ختفى عن أنظار أسرته مثل طفل أساء التصرّف وخجل من المواجهة.

وسائل الإعلام اعتبرت العثور عليه بمثابة نصر، وبكاء أمّه وأفراد أسرته، جعلت أيمن يميط اللّثام عن وجه “أبو قصي”. البطولة تهاوت، مع تكذيبه لنفسه، وتحطّمت أسطورة المحارب العائد حيّا من أرض الجهاد.

“لقد كذبت عليكم، وأنا لم أسافر إلى سوريا ولم أغادر القيروان ولم أتغيّب عن العمل”، كانت الحقيقة الّتي صدع بها الارهابي المزيف.

“تقمّصت دور المقاتل” يقول بطل برنامج “لاباس”، مضيفا أنّ الأسماء الّتي ذكرها “حفظها من وسائل الإعلام والأنترنيت” التي كان يكثر من متابعتها في عزلته وأثناء عمله في الحراسة ليلاً.

دافعه لم يكن المال، يقول، وهو لم يتلق أيّ مبلغ من أيّ جهة بقدر شغف الظهور الذي بدأ قبل ستّة أشهر مع صحفيّة بجريدة “الصرّيح” التونسيّة، نقلت عنه تصريحات حول تسفير المقاتلين إلى سوريا.

الهاتف كان أداة الوصل بينه وبين صحفيي برنامج “لاباس”. حيث اتصلت به رئيسة التحرير في أكثر من مناسبة عبر رقمه الّذي حصلت عليه من صحفيّة الجريدة اليوميّة.

رافقته من القيروان إلى استوديو القناة بعد أن أقنعها بروايته، وبعد التسجيل أعادوه إلى مدينته، أما العائلة فلم تكن على علم لأن نقطة السفر والعودة كانت بعيدا عن المنزل خشية تعرّفهم لفعلته.

انقلب السحر على الساحر

“سلّمت ابني لفرقة مكافحة الإرهاب بنفسي”، تقول أم أيمن لبعض الصحفيين باكية ملتمسة عدم تصويرها.

فرقة مكافحة الإرهاب لم تأت إلى المنزل لتعتقله، بل توجهت إلى مركز عمله، ومن هناك تدخّل زميل له ليقنع والدته بضرورة تسليمه أفضل من مداهمة المنزل.

اعترافات أيمن كان لها وقع الصدمة على كثير من التونسيين وكذلك مقدّم البرنامج نوفل الورتاني الذي اعترف بتعرّضه للخداع هو وفريق عمله، وأقرّ بارتكاب هفوات مهنيّة بسبب التسرّع.

قناة “التونسية” التي نالت شعبية واسعة بفضل برنامج ساخر يوقع بشخصيّات معروفة، يبدو أنّها ذاقت من الكأس نفسه وانقلب السحر على السّاحر.فالبرنامج الحواري الأبرز لدى القناة وقع في فخّ شاب يبحث عن بطولة، وفتح صندوقاً من الأسئلة حول أساليب التحقق من المعلومات في الإعلام التونسي، ومخاطر اللهاث خلف السبق الصحفي.