“ينظرون لنا نحن العائدين من المهجر نظرة دونية”، بهذه العبارة تلخص فداء محمد العائدة من سوريا مشكلتها في التعايش مع المجتمع الليبي الذي تنتمي إليه، في بلد يفتخر فيه معظم السكان بقبيلته أو عراقة أصله واسم عائلته.

فرحة كبيرة غمرت فداء عند ركوبها الطائرة للمرة الآولى في حياتها عام 1975، عائدة إلى ليبيا بلدها الأم، بعد أن قضت سنوات عمرها الستة عشر في دمشق، إثر هجرة عائلتها إلى تركيا ثم إلى سوريا أواخر عام 1912.

“ينظرون لنا نحن العائدين من المهجر نظرة دونية”، بهذه العبارة تلخص فداء محمد العائدة من سوريا مشكلتها في التعايش مع المجتمع الليبي الذي تنتمي إليه، في بلد يفتخر فيه معظم السكان بقبيلته أو عراقة أصله واسم عائلته.

فرحة كبيرة غمرت فداء عند ركوبها الطائرة للمرة الآولى في حياتها عام 1975، عائدة إلى ليبيا بلدها الأم، بعد أن قضت سنوات عمرها الستة عشر في دمشق، إثر هجرة عائلتها إلى تركيا ثم إلى سوريا أواخر عام 1912.

فداء المواطنة الليبية في العقد الخامس من عمرها، هاجر جداها إلى تركيا رفقة الجيش العثماني المنسحب بعد هزيمته عام 1911، وحيث كان جدها أحد ضباط الجيش العثماني وجد نفسه مسرحاً من الجيش بعيد وصوله إلى اسطنبول بأقل من سنة واحدة.

اضطر الجد بعد ذلك لترك اسطنبول ليتوجه إلى دمشق ويستقر فيها، في حيّ عرف فيما بعد بـ”حي المهاجرين”، والذي غص بالليبيين الذين نزحوا إلى سوريا في تلك الفترة.

ولدت فداء وترعرعت في دمشق ولكنها كانت دائماً تشعر بالشغف تجاه وطنها الأم  ليبيا، بسبب ما سمعته من جديها عن ذكرياتهما فيها، وكم انتابتها الحماسة حينما علمت بقرار والدها العودة إلى بلده الذي غادره وهو طفل يحبو، الأمر الذي شكل حلماً له قبل أن يكون حلماً لأبنائه.

حلم أصبح كابوساً

أحلام الفرحين بالعودة إلى بلادهم اصطدمت بواقع اجتماعي صعب، تعامل معهم على أنهم متخاذلون تركوا الوطن إبان الاحتلال، وعادوا إليه بعد أن تحسنت ظروفه الاقتصادية باكتشاف النفط.

وقد شهدت ليبيا على  مر عقود  هجرة عشرات الآلاف من أبنائها لأسباب عديدة، أهمها خروج الكثير منهم مع العثمانيين بعد احتلال الإيطالين لها، وكذلك الهجرات إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية والمجاعة التي حلت بمناطق مختلفة من البلاد في تلك الفترات.

هذه الهجرات شكلت منعطفاً حاداً في مصير من اختاروا ترك وطنهم الأم ليستوطنوا دولاً كتركيا وسوريا وفلسطين ومصر وتونس والنيجر وتشاد.

تقول فداء إنها لم تجد صعوبة في التعايش مع المجتمع الليبي “على الرغم من أنه قبلي ومحافظ ومنغلق على نفسه”، لكن ذلك لم يشكل عائقاً لتكوين صداقات وعلاقات اجتماعية مع أبنائه وبناته من أقرانها، إبتداءاً بزميلاتها في المدرسة ومروراً بجيرانها وأبناء وبنات عمومتها من الجدين.

ولكن المشكلة كانت في تقبل الطرف الآخر لها، “تارة بسبب لهجتي الليبية الركيكة، التي جعلتني محط استهزاء بعض المحيطين بي، وتارة بسبب اختلاف بعض العادات والمفاهيم التي نشأت وترعرعت عليها”، تقول فداء.

القانون لا يميّز

لا توجد أي إحصائية توضح أعداد العائدين إلى ليبيا سواءا في عهد الملكية أو في عهد نظام القذافي، بحسب فتحي أبو حسينة مدير مكتب السجل المدني بطرابلس. لكن مع ذلك يعتقد أو حسينة، بحكم خبرته اليومية، بأن العائدين من تونس هم الأكثر عدداً، تليها مصر ثم تشاد والنيجر، مع اختلاف التوزيع الزمني لعودتهم باختلاف الأحوال السياسية والظروف الاقتصادية لتلك الدول.

وينفي بو حسينية وجود أي تمييز قانوني ضد العائدين، فالدولة الليبية منذ استقلالها في العهد الملكي وحتى اليوم “لا تعترف بهذه العنصرية، ولا تمارس التمييز في إجراءاتها الإدارية وقوانينها ومحاكمها، ولا في إجراءات منح الجنسية”.

ويؤكد الحبيب محفوظ الطرابلسي -وهو رجل في الخمسينات من عمره عاد من تونس في فترة السبعينات- على أقوال بو حسينة، مشيراً إلى أنه حصل على الجنسية الليبية بمجرد أن أثبت أصوله، ومن دون صعوبات تذكر.

لا زواج ولا مصاهرة

لكن الطرابلسي هو الآخر يعتبر نفسه ضحيةً للنظرة الدونية من أبناء مجتمعه، من خلال ممارسات أبرزها على حد قوله الاعتراض على المصاهرة أو الزواج من أبناء وبنات مولودين في ليبيا.

ويوضح: “أنا شخصياً لم أتمكن من الزواج إلا بسيدة ليبية أرملة، رضيت بالزواج مني نتيجة ظروفها رغم معارضة أهلها وأقاربها”.

وتتحدث فداء في الساق نفسه عن صعوبات لا تنفك تواجهها في التواصل مع محيطها الاجتماعي، “فبقدر ما عاشرت من أشخاص دائماً أجد جبلاً من الجليد يقف حائلاً بيننا”، تقول فداء، وهي تصف المسافة التي يضعها بينهما حتى أقرب من يصادقونها أو من تقربوا لخطبتها ثم تراجعوا لمجرد معرفة أصلها وفصلها، وسبب لكنتها الليبية الثقيلة.

“لا يعترف الليبيون بهذه النظرة العنصرية لا سراً ولا علانية” يقول الطرابلسي، ولكنها تظهر في تصرفاتهم حيال هؤلاء الناس وكأنها وصمة عار لا تغتفر.

“فمن ترك وطنه هرباً من الحروب أو الجوع أو في أفضل الظروف من الفقر ليبحث عن وطن بديل، ولم يعد إلا بعد ظهور النفط، أصبح فاقداً الوطنية والضمير في مفهوم البعض، بل إنه أحياناً ينعت بالخائن”.

اضطهاد وحرمان

عادل الأمير الذي عاد من مصر بصحبة والده الليبي وأمه المصرية في فترة الثمانينات وكان وقتها طالباً في المرحلة الثانوية وأكمل دراسته الجامعية في ليبيا يقول متأسفاً “لا أحد يغفر للعائدين من المهجر حتى إن أثبتوا جدارتهم في المجتمع وحققوا نجاحاً على الصعيد المهني أو العلمي أو المالي”.

فبعد أعوام طويلة عاشها في ليبيا يعتقد الأمير أنه يواجه اضطهاداً في عمله لكونه عائداً، حيث لم يسمح بترقيته إلى رئيس قسمٍ في المؤسسة التي يعمل بها “نتيجة عدم قبول زملائي من الموظفين بذلك، وكأن الأمر يشكل لهم نوعاً من الإهانة على ما يبدو”.

هذا الشعور حسب قوله دفع بعض زملاءه لحث الإدارة على “عدم ترقيتي أو تكليفي بأي منصب قيادي في المؤسسة، فضلاً عن حرماني من الحصول على موافقة إدارة المؤسسة لإكمال دراستي العليا في الخارج على حسابها”.

بيد أن أكثر الأمور غرابة -تقول فداء- هو حرمان بعض الليبيين أقاربهم العائدين من المهجر من حقوقهم في ميراث العائلة، وهو ما حدث معها شخصياً، إذ يصر أقاربها وأبناء عمومتها من ناحية الجدين على معاملة أسرتها كدخلاء. “هم لايقبلون الاعتراف بنا  بشكل يسمح لنا بمطالبتهم بحقنا في الميراث رغم أننا تقول: لا نريد أملاكاً أو أراضي أو نقوداً منهم، كل ما نريده المعاملة السوية واعتبارنا مكافئين لهم”.

العائدون الجدد

تقر فداء بأن العائدين من المهجر الجدد والذين هربوا أو هاجروا من ليبيا في فترة نظام القذافي إلى أوروبا وأمريكا وكندا لا يلاقون التمييز نفسه الذي يتعرض له بقية العائدين، “قد يكون ذلك بسبب عقدة الخواجة لدى الليبيين”، بحسب فداء.

الكثير ممن كانوا لا يستطيعون العودة إلى ليبيا خلال فترة حكم القذافي عادوا بعد الإطاحة به، ومنهم من اعتلى المناصب السياسية بما فيها أعلى سدة الحكم، إلا أنه لم ينظر لهم أحد على أنهم موصومون أو انتقص من مكانتهم، “على الرغم من أن حدة العنصرية زادت بعد الثورة تجاه العائدين بشكل عام، وتجاه العائدين من الدول الواقعة جنوب ليبيا بشكل خاص”، تقول فداء.

فداء تشعر اليوم بالوحدة والعزلة نتيجة تجنب الكثير من أبناء البلد لها، فلم يعد من السهل إقامة صداقات حقيقية أوعلاقات اجتماعية وطيدة، كما أنها لم تتمكن من العثور على شريك لحياتها يبادلها الاحترام ويتجاوز كونها من العائدين.

وتقول فداء: “كلما أفكر في حياتي بليبيا أشعر بغصة في حلقي، ويتبادر إلى ذهني والدي الذي كان حريصاً على عودتنا من بلدٍ أحببناه لبلد أحببناه أكثر، لكننا ننعت فيه بالعائدين من المهجر وكأنها خطيئة لا تغفرها السماء”.