لن ينسى عدنان البراهمي تاريخ 25 تموز/ يوليو 2013، ففي هذا اليوم انقلب كل شيء في حياته رأساً على عقب. لم يعد أبدا ذلك الشاب الحالم الذي عاش طوال 24 سنة دون أن يكترث لمشكلات الحياة، ودون أن يفكّر بأن المستقبل قد يخبئ له مفاجآت قاسية أو أن القدر سيأخذ منه اقرب شخص إلى روحه وقلبه.

على غير عادته لم يستيقظ باكرا في ذلك اليوم. لقد أمضى ليلة مؤرقة وطويلة جافاه فيها النوم، كما أن ارتفاع درجة الحرارة الرهيب زد على أنه كان صائماً، دفعه لكي يبقى في الفراش.

لن ينسى عدنان البراهمي تاريخ 25 تموز/ يوليو 2013، ففي هذا اليوم انقلب كل شيء في حياته رأساً على عقب. لم يعد أبدا ذلك الشاب الحالم الذي عاش طوال 24 سنة دون أن يكترث لمشكلات الحياة، ودون أن يفكّر بأن المستقبل قد يخبئ له مفاجآت قاسية أو أن القدر سيأخذ منه اقرب شخص إلى روحه وقلبه.

على غير عادته لم يستيقظ باكرا في ذلك اليوم. لقد أمضى ليلة مؤرقة وطويلة جافاه فيها النوم، كما أن ارتفاع درجة الحرارة الرهيب زد على أنه كان صائماً، دفعه لكي يبقى في الفراش.

كان غافيا عندما اخترق ذلك الصوت الهادر الصمت. خمس طلقات شقت سكون الصباح. قفز قلبه بين ضلوعه وهو يغادر الفراش في لمح البصر، وكأنه شعر بأن هذا الصوت المزعج سيضع نهاية لأشياء جميلة في حياته وسيرغمه على وداعها للأبد.  

عبر عدنان الردهة في ثوانٍ وقفز خارج المنزل. لم يبال بصيحات أمّه وشقيقاته المولولات خلفه. اقترب من سيارة والده. الباب الذي بجوار السائق كان مشّرعاً. رأى ذراع والده تتدلّى من الباب.

اقترب الإبن من الأب. كان الأخير مضرّجا بالدماء. نظر إليه عدنان بذهول لا يدري ماذا يفعل. حاول أن يحتضنه أو أن يمسك بيده لكنه لم يستطيع. الدماء التي تغطّي الجسد المسجّى أمامه ورأس والده المتدلّي سمّرته في مكانه. اقترب منه وجلس القرفصاء، وإذ بوالده يرفع رأسه نحوه وينظر في عينيه مباشرة.

“لن أنسى مطلقا تلك النظرة التي رمقني بها الوالد وهو يحتضر..وهو مضرّج بدمائه..نظرة استغرقت ثلاثة أو أربعة ثواني لكنها ستدوم في ذاكرتي الى الأبد ..لم تكن نظرة متألمة أو  خائفة ..كانت نظرة ثاقبة ومفعمة بالأمل”. يقول عدنان.

ويتابع “إلى اليوم ما زلت أشعر بتلك اللمسة الدافئة من يده. إلى اليوم مازلت أشعر بملمس الدم اللزج على تلك اليد. إلى اليوم لم أنس تلك النظرة المتحدية والسعيدة. إلى اليوم ما تزال ذاكرتي تحتفظ برائحة الدم والبارود ونظرة والدي الحاج محمّد البراهمي نائب الشعب وشهيد الوطن الذي وقع اغتيال صبيحة عيد الجمهورية في تونس”.

في كل الاجتماعات الشعبية التي يعقدها حزب التيار الشعبي الذي أسسه محمد البراهمي كثيرا ما يتراءى لعدنان خيال والده وهو يعبر بين الحشود، ينظر اليه من بعيد وهو يخطب في الناس  مطالباً يكشف حقيقة اغتياله.

“نعم كنت أراه مبتسما كعادته، يتنقّل بين المحتشدين، وأحيانا يخيّل لي أنه يلوّح تجاهي بيده.. ذلك المشهد لا يريد أن يختفي في كل مرة نعقد فيها اجتماعا شعبيا”.

حلم عدنان هو أن يبقى على العهد السياسي مع والده الشهيد الذي كان شغوفا بالعمل السياسي منذ سنوات شبابه الأولى وكان من ذلك الجيل المنبهر بأفكار الزعيم جمال عبد الناصر القومية. لذلك ورث عدنان “جينات” والده السياسية، كما يصف نفسه، فهو مثله ناصري الهوى وقومي وعروبي التوجّه.

أمام عدنان اليوم مهمة صعبة في مواصلة رصّ الصفوف ضمن اختيار والده الأخير، الذي سحب التيار القومي في تونس ليلتحم بالجبهة الشعبية ذات التوجهات الاشتراكية والرافعة لشعار العدالة الاجتماعية. “أدافع اليوم عن مكانة مميزة للتيار القومي من خلال حزب والدي “التيار الشعبي” ضمن تحالف الجبهة الشعبية. أنا اليوم أكمل معركة والدي مع رفاق دربه في تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في هذا البلد”.

السياسة لم تكن غريبة عن عدنان، فقد اختبرها منذ صغره. كان يحضر مع والده كل اجتماعات التيار القومي منذ ما قبل الثورة، وقد تأثر بأفكار والده ومنذ المرحلة الاعدادية. والده ذاك المنهمك بالسياسة، الذي باع سيارته سنة 1985 ليشتري مجموعة من كتب الفكر القومي ويدخلها تونس، كان أبرزها كتاب “عن الناصريين واليهم”.

لا يخفي عدنان طموحات سياسية بعيدة المدى يريدها أن تنضج بهدوء. ويقول إن المشوار مازال طويلا وهناك الكثير ليتعلّمه من مناضلين كبار في الجبهة الشعبية لا يقلون قيمة عن صدق والده ونضاله. ويضيف “أنا أعتبر نفسي من أبناء الثورة الشرعيين ومن المتوقّع أن يأتي اليوم الذي سنكون فيها في مواقع القرار، لكن ذلك ينبغي أن يكون دون تسرّع، فالطريق طويلة”.

أن تكون ابن مناضل زمن الدكتاتورية ليس بالأمر الهيّن أو السهل، يقول عدنان البراهمي، لأن الدولة البوليسية تحصي عليك أنفاسك كل يوم. “كنّا نقلق بشدّة في البيت كلما تأخر والدي في العودة إلى المنزل ولو لمدة ساعة”.

كل ذلك القلق لم يؤثّر على متانة العلاقة التي كانت تجمع عدنان بوالده “رغم بعض المشاكل العادية في سن ّ المراهق”. هو لن ينسى مطلقا كلمات البراهمي التي ساهمت في نحت شخصيته بعد ذلك. يتذكّر جيدا تلك العبارة التي قالها له والده في بداية سنّ المراهقة بعد نقاش حادّ بينهما “عش ومت كالرجال ..لا تكذب ولا تخضع ولا تنافق”.

لكن ذلك الصباح الأسود جعله يفقد مرشده في الحياة ومثله الأعلى. غيّر كل شيء في حياته، فابن المناضل تحوّل الى ابن الشهيد. الكل ينظر اليه كامتداد لمحمّد البراهمي وكمسؤول عن عائلته المتكونة من أربعة شقيقات (بلقيس، سارة، منتهى وفداء) ووالدته.

عدنان الشاب المولود في تشرين أول/ أكتوبر 1995 والذي يدرس “الجغرفة الرقمية” في الجامعة وعلى وشك التخرّج، أصبح اليوم مكبّلا بأعباء جديدة. أعباء عائلية وسياسية. لم يعد يشعر بأن حرّ في تصرفاته بل هو مطالب كل مرّة أنه يستحق صفة “ابن الشهيد.

الشهرة التي نالها بعد عملية الاغتيال الشنيعة التي تعرّض لها والده جعلته قريبا من الناس، وفيا لوصية والده في أن يكمل مسيرة الدفاع عن أفكاره وعن القضايا التي آمن بها. والأهم من كل ذلك ان يكشف حقيقة من دبّر وخطّط لقتل والده، فعدنان يعتبر ذلك “ثأرا شخصيا” لن يتخلّى عنه.

ذاكرة عدنان البراهمي تختزن آلاف الذكريات واللحظات التي لا تنسى وجمعته بالشهيد، لكن بعض هذه الذكريات كانت متوهجة أكثر من غيرها وكانت بمثابة تنبؤات تحققت فيما بعد.

بعد دفن الشهيد شكري بلعيد يوم 8 شباط/فبراير 2008، غادر محمّد البراهمي مقبرة الزلاّج مع ابنه عدنان وصديق طفولته الناصر الظاهر الذي خطب في الناس والنيران تلتهم جسد البوعزيزي وكان خطابه مفجّر لثورة الكرامة بسيدي بوزيد.

كان البراهمي ينظر للحشود المتدافعة حول قبر شكري رافضة المغادرة، وهو يبتسم رغم الحزن المخيّم على المكان، ثم سرح بخياله بعيدا ليلتف بعد ذلك الى حيث يرقد شكري بسلام، يتمتم كلمات رسخت في ذهن عدنان: “أتمنى لو أحظى بمثل هذه الجنازة. أشتهي موتك أيها الرفيق شكري بلعيد”.

سريعا ما حقق القدر أمنية البراهمي الأب، لكنه نزع من قلب البراهمي الإبن أمنيات كثيرة، وأحلام كان يريد أن يتقاسم تحقيقها مع والده، وأفراح كان يتمنّى ان يعيش تفاصيلها معه.

لم يرد عدنان ولم يتمنّ أن يكون ابن شهيد. لم يكن يريد أن يفقد والده. أراده أن يبقى حيّا ليكون فخورا به، ليحققّا معا ما حلما به زمن الدكتاتورية. ولكن والده المناضل أصبح شهيدا رغم أنفه، كما يقول.