ينتفضون من مقاعد مقهى “طقطق” انتفاضة رجل واحد في مشهد شبيه بأفلام الحركة، ثم ينتشرون في شوارع مدينة القيروان العتيقة. يتسابقون فتيات وفتيان، معهم آلات تصوير مثيرة بأحجامها الضخمة، يوزعون أضواءها على وجوه مبتسمة متفاجئة على إيقاع الأزرار.
عددهم خمس وعشرون شابا وفتاة. تجمعهم آلة التصوير يحملها كلّ فرد منهم ويمسكها بين يديه ويقلّبها في مواضع مختلفة. أنهوا لتوّهم تصوير شريط مصّور “القيروان السعيدة”، وتملأ قلوبهم سعادة تحقيق الانتصار وأعلى مشاهدة.
ينتفضون من مقاعد مقهى “طقطق” انتفاضة رجل واحد في مشهد شبيه بأفلام الحركة، ثم ينتشرون في شوارع مدينة القيروان العتيقة. يتسابقون فتيات وفتيان، معهم آلات تصوير مثيرة بأحجامها الضخمة، يوزعون أضواءها على وجوه مبتسمة متفاجئة على إيقاع الأزرار.
عددهم خمس وعشرون شابا وفتاة. تجمعهم آلة التصوير يحملها كلّ فرد منهم ويمسكها بين يديه ويقلّبها في مواضع مختلفة. أنهوا لتوّهم تصوير شريط مصّور “القيروان السعيدة”، وتملأ قلوبهم سعادة تحقيق الانتصار وأعلى مشاهدة.
لم يكسبوا أمولا لكنّهم نجحوا في التعريف بمدينتهم “القيروان” دوليّا ووطنيّا، ليس بصفتها المدينة المحرومة من التنمية وبكثرة العاطلين بها فقط، وإنّما أيضا عبر صورة مغايرة، صورة المدينة السعيدة.
كاميرا لتغيير الواقع
تخفي فبّعة مهدي عيّاد جانبا من وجهه الطفولي وهو يفحص آلة تصويره. ترتسم على بشرته السّمراء تجاعيد خفيفة تحت عينيه وهو يفحص الصور مثل جرّاح تجميل، ثم يلصق نافذة آلته بعينه اليمنى، مرّات أخرى، وبعدها تبرق عينه مبتهجة من تحت القبعة كمن حقق انتصارا.
عندما لمس مهدي آلة تصوير التي جلبها خاله من الخارج لأوّل مرّة، كانت نيّته التوسّط في بيعها، لكن عاطفته دفعته إلى التماس الاحتفاظ بها لينطلق في عشق هوايته.
انشغال مهدي بالتّصوير أنساه تفاصيل البحث عن شغل بعد الثورة. شغفه بالتقاط الصور في كلّ الأماكن بالقيروان ومعظم الأوقات وتعلّم التقنيات، استغرق كلّ وقته.
يقول مهدي في إشارة إلى قيمة هواية التصوير في حياته المهنيّة، “لا أحتاج إلى المطالبة بشغل”، فهو يعتبر التصوير مورد رزقه في المستقبل، وسيسعى إلى تطوير هوايته.
لكن ما يزعج مهدي هو عدم حصوله على شهادة أكاديميّة في التصوير تسمح بانتدابه في تونس أو في الخارج. فهو لم يتلقّ أيّ تكوين أكاديمي في التصوير. وإنّما دفع من الوقت الكثير لتعلّم التقنيات وتفاصيل التصوير والمونتاج ومعالجة الصّور عبر الأنترنيت. وتابع تمارين مع بعض الجمعيّات، قبل أن يصبح خبيرا ومكوّنا لزملائه الجدد في جمعيّة “أي فوتو” بالقيروان.
الناس اعتادوا علينا
التدخين والقهوة الّتي أدمنها فترة البطالة إثر التخرّج، أتعبا جسده النّحيف قبل أن تبدأ رحلته مع عالم الصّورة. قبل أن يستهويه التصوير، درس مهدي اختصاص الشبكات الإعلامية لمدّة ثلاث، لكنه أهمل كلّ ما تعلّمه وتراخى في طلب وظيفة.
يشترك زياد نصير مع مهدي في الملامح الطفوليّة التي ترسمها الابتسامة العريضة المانعة لكلّ غضب حتّى وإن أحرجه “مروان” أو “عبد الرّحيم” بنكتة أو بسخريّة، ولا يجد حرجا في الركض ورائهما اذا أغضباه.
وقد درس زياد “الخدمات الإلكترونية” لكنه وجد نفسه غير مؤهّل للعمل. واعتبر أن معارفه النظريّة لا تسمح له بتنفيذ التطبيقات، في حين أنّ ولعه بآلة التصوير جعل رغبته في التعلّم تكبر ومعها يكبر حجم الآلة وتخرج من الهواية إلى الاحتراف.
عندما يمسك مهدي آلة التّصوير ينسى البطالة، لأنه “بصدد نحت واقع أفضل”. فممارسة هواية التصوير “أفضل من الجلوس على المقهى أو الاعتصام أو غلق الطريق للاحتجاج على البطالة والفقر”. ويعتبر آلة التصوير، التي لا تفارقه، هي وسيلته في التعبير عن مطلبه ومطلب شباب جهة القيروان. ينشرها في مواقع ومدوّنات.
بداية عشق الصّورة بالنسبة لزياد ومهدي، هو نشر صور جميلة عن “القيروان” التقطها مصوّرون محترفون عن القيروان، وتبادلها عبر الصفحات الاجتماعيّة. وقد كان ذلك قبل الثّورة، سنة 2010.
ينساب الفريق لالتقاط صورة جماعيّة، فلم تخلو من اللهو. يتناوب مهدي ومروان الهلالي وزياد التقاط الصور، قبل أن يسارع عبد الرّحيم الذهبي إلى تفحّصها كأنه يمسك “ميزان الذهب”، فيجلدهم بنقد لاذع ممازحا قبل يتلقى وابلا من الردود المشككّة في مداركه. وهكذا لا تتوقف حكاياتهم الطريفة عندك كل لقاء أو عمل.
“أردنا نشر ثقافة التّصوير في القيروان”، يقول عبد الرّحيم الهنداوي رئيس الجمعيّة. ويضيف “من خلال نشاط التصوير وانتشارنا، اعتاد النّاس علينا وغيرنا النظرة الخجولة والمنغلقة لآلة التصوير في مدينة القيروان المحافظة”.
“شديتك” وثقافة جديدة للصورة
نال الفريق سمعة بين الشباب دفعته إلى طلب الانضمام، أمام توفّر أرضيّة ممهدة مخالفة لما كانت سائدة قبل الثورة. ومن منظور مهدي فإن ثقافة التّصوير بدأت تنتشر في القيروان و”أصبح الشّباب يقلّدنا فيشتري آلة تصوير ويرغب في الالتحاق بالفريق”.
وسبب الإقبال هو الإعجاب بتظاهرة “شدّيتك” وهي عمليّة التقاط صور على حين غفلة ثمّ نشرها في ساحة الثقافة.
وجوه المئات من المواطنين، من الشبّان والفتيات والشيوخ، الّذين قنصتهم آلات تصوير الشبّان، حاضرة بتفاصيل مختلفة في معارض “شديتك” وتعني “أمسكت بك” أو “قنصتك” في نسختين في القيروان وفي العاصمة وفي الخارج، إضافة إلى تبادلها في وسائل الإعلام وعبر الأنترنيت.
خصّص المعرض الأوّل لإبراز التّراث المادي واللامادي لمدينة القيروان العتيقة من أجل توظيفها في قطاع السياحة ونقل صورا حيّة لها بعد الثورة. وقد حققت السياحة في القيروان نموّا ب40 بالمائة سنة 2013 مقارنة بسنة 2012، لكنها لا تزال أضعف من نسب ما قبل الثورة. وتعتمد السياحة بالأساس على توظيف المعالم الأثريّة والمعالم الإسلاميّة.
أمّا النسخة الثانية من المعرض، فخصّصت لنقل صور لمواطنين عاديين التقطت لهم في غفلة منهم وهم بصدد ممارسة حياتهم العادية. يشبّهها زياد نصير ب”ببارازي لمواطنين عاديين”. ثم في خطوة ثانية عندما يزور أولئك المواطنين المعرض يلتقط لهم المصوّرون صورا مع تلك الصور ويمكن لمن يشاهدها أن يقارن الفارق بين الصورتين.
الاعتناء بتراث مدينة القيروان والتفاصيل الثقافيّة من اللّباس والعادات والمأكولات، والصناعات التقليديّة مثل الزربيّة والجبّة والشاشيّة. هو أبرز مضامين صور الشباب وأنشطته وتفاصيل أحلامه البارزة.
ويهدف الشبّان عبر نشاطهم الفوتوغرافي، إلى التأثير على القيروان من خلال وضع سجلّ من الصور الّتي تؤرّخ لفن التصوير الفوتوغرافي في المدينة وتعويد المواطنين على الصورة وإخراج حياتهم من الرّوتين، وتنشيط الحياة الثقافية ، خاصة جهة القيروان التي ينتظر سكّانها من الثورة تحسّن الوضع المعيشي.
تعكس الصور الفوتغرافيّة تأمّلات الشبّان المصوّرين للحياة. ومن خلف النافذة خرجت “فرحة القيروان”، الّتي نقلت وجها مشرقا للشباب، مفعما بالغناء والحركة وفن الشارع مع تحقيق الترويج السياحي.
و”فرحة القيروان” تجربة استلهمها فريق المصوّرين الشباب من تجربة عالمية بدأها شباب “نويورك”. وتهدف العملية إلى”إظهار الفرحة وتغيير النظرة السّلبيّة الّتي روّجت عن القيروان وعن الانغلاق والتطرّف مع تغيير في الرؤية والصّورة”، كما يقول مهدي وزملائه.
وصنعت التظاهرة الحدث لتتحوّل إلى مواضيع نقاشات تلفزيّة ومتابعات إعلامية في قنوات تلفزيونية محلية. وهو أمر أبهج المصوّرين الشبّان وجعلهم يفخرون بعملهم ونجاحهم في التعريف بمدينتهم.
صور لنساء الأرياف
تشبه تجربة فريق المصوّرين بالقيروان تجارب مجموعات أخرى في تونس بعديد الجهات. وقد احتضنت العاصمة ثلاث دورات لتظاهرة “تصاور الشّارع” التي ترعاها منظّمات، وتتنوّع فيها المضامين الاجتماعيّة والسّياسيّة والحقوقيّة.
ينتمي مهدي وزياد، إلى ما يقارب 14 ألف شاب عاطل عن العمل من ذوي الشهادات العليا في القيروان. ولكنهما لم يقدّما أيّ طلب للتوظيف. ومثلهما لا ينتظر فريق المصوّرين، هبات من أيّ جهة رسميّة. ويعتمدون على الإمكانيات الذاتيّة.
ويرون في المقابل أنّ الحصول على تمويل من المانحين يستوجب تنفيذ مشاريع جدّية واحترافيّة وتطوير المهارات. وهم يشتغلون على مشاريع سياحيّة وتراثيّة يسعون إلى إقناع المسؤولين على مشاركتهم في تنفيذها خدمة للسياحة والثقافة في القيروان.
ويتكفّل الشاب مهدي الخميلي، وهو مصوّر مسؤول عن التنسيق الخارجي، بترويج الصّور التي التقطها زملاؤه، والتعريف بمشاريعهم مستفيدا من تجربته خارج مدينة القيروان.
وسمحت له مشاركته في معارض وزيارات للخارج، في التعريف بأنشطة الشبّان المصوّرين ونشر صور الثورة خارج تونس. ويخطط فريق المصوّرين لتسليط أضواء آلات تصويرهم نحو النّساء الكادحات في القيروان وأريافها، لتكون الصورة نافذة على حياة الفئات غير المحظوظة، لتكون أوفر حظّا من خلال نافذة الصّورة.