لم يكن جهاد شابّا مثيرا للإنتباه للوهلة الأولى من حيث الشّكل. هيأته عاديّة ولون بشرته الأسمر وقبّعته السّوداء التي تخفي تحتها رأسا شبه خالٍ من الشّعر ليس من شأنهما تمييزه عن بقيّة من في سنّه. حتّى نشاطه وحيويّته لا يفيان بالغرض. فقط  “حفرة” في كتفه الأيسر تواري داخلها أحداثا غيّرت مسار بلد بأكمله، تجعل منه وجهة لمن يريد معرفة بعض التّفاصيل الدّقيقة عن “ثّورة الشّباب” في تونس.

لم يكن جهاد شابّا مثيرا للإنتباه للوهلة الأولى من حيث الشّكل. هيأته عاديّة ولون بشرته الأسمر وقبّعته السّوداء التي تخفي تحتها رأسا شبه خالٍ من الشّعر ليس من شأنهما تمييزه عن بقيّة من في سنّه. حتّى نشاطه وحيويّته لا يفيان بالغرض. فقط  “حفرة” في كتفه الأيسر تواري داخلها أحداثا غيّرت مسار بلد بأكمله، تجعل منه وجهة لمن يريد معرفة بعض التّفاصيل الدّقيقة عن “ثّورة الشّباب” في تونس.

في حقيقة الأمر لا يستسيغ جهاد مبروك البالغ من العمر 26 عاما تسمية ما حدث في تونس بـ”ثورة الشّباب”، فبمجرّد سماع اللفظ ترتسم على وجهه النحيل ابتسامة باردة مستهزئة توحي بحزن عميق وخيبة أمل يترجمهما بصوت خافت “الثّورة قام بها الشّباب واستفاد منها الشّيوخ”.

يسكت قليلا ويتمعّن في قهوته ثم يرفع عينيه البنّيتين اللّون وينطلق في الحديث كمن أمضى سنوات في سجن إنفرادي قائلا “الشباب الذي قام بالثّورة متحدّيّا الرّصاص تفرّقت جحافلهم فبعضهم إنضوى تحت راية الأحزاب السياسيّة وغالبيّة منهم رفع الراية البيضاء، فوضعهم الإجتماعي المتردّي أنهكهم، وآخرون غادروا البلاد لنفس السّبب”.

خدش صغير في رقبته كان البوّابة الأماميّة لقصّة جريح ثورة. يمرّر جهاد يده عليه ثم يغوص في أغواره ليعود إلى 25 شباط/فبراير2011 الذي كان تاريخ يوم غضب. تجمّعت يومها أعداد هائلة من الشّباب المستقلّ والمتحزّب فيما عرف بإعتصام القصبة 2 ونزلوا إلى شوارع العاصمة ليحتشدوا أمام وزارة الدّاخليّة في شارع الحبيب بورقيبة للتّعبير عن رفضهم لحكومة تضم وزراء النّظام السّابق آنذاك، واشتبكوا مع الأمن.

مع حلول الظّلام عاد جهاد إلى خيمته أمام قصر الحكومة في القصبة ليستفيق في اليوم التالي ويقتحم من جديد مع بقيّة الشباب المتحمّس الشّارع الرئيسي في العاصمة. ولكن يوم 26 شباط/فبراير لم يكن كسابقه فالمواجهات كانت دامية واستعمل الأمن الرّصاص الحيّ.

يرفع جهاد رأسه ويتجه بؤبؤ عينه يمينا ويسارا ليستحضر بعض التفاصيل ثم يواصل “نزلنا لشارع الحبيب بورقيبة بأعداد كبيرة وكنّا نعلم ما ينتظرنا. فور وصولنا هاجمنا الأمن بالغاز المسيل للدّموع فتفرّقت جحافل الشباب في انهج العاصمة وجدت ملاذا رفقة بعض أصدقائي بجانب فرقة من الجيش ولكن الأمن لاحقنا فمكان من العسكريّين إلّا حثّنا على الهروب فلم يكن لديهم أيّ دافع للدّخول في مواجهة مع الأمن لحمايتنا”.

يضغط محدّثنا بأسنانه على سبّابته ليكتم ألمه ويسترسل “هربت إلى نهج مقابل وتداخلت أصوات صياح المتظاهرين المرعوبين بدوي الرّصاص المفزع فوجدت شابا مصابا في ساقه توجّهت لمساعدته على الهرب ولكن رصاصة سبقتني واستقرت في راسه، تجمّدت من هول الصّدمة وسمعت أعوان الجيش يصيحون “إبتعد سيطلقون عليك النّار”، رفعت بصري فرأيت أشخاصا ملثّمين على سطح البناية التي تقابلني ومن ثم أحسست بشي يخترق رقبتي التي اعوجّت في الحين ولم أعد أستطيع سماع شيء وسقطت”.

لم يجل ببال جهاد حينها أن تكون رصاصة قد أصابته فحاول الوقوف ونجح في ذلك فكانت شجرة محاذية له الوسيلة للمحافظة على توازنه. ولمّا عادت حاسة سمعه لاستقبال المؤثّرات الخارجيّة كان صوت الرّصاص هو الطّاغي طيلة 18 دقيقة وبعدها عمّ هدوء مخيف دفع جهاد للزّحف، خوفا من عودة وابل الرّصاص، إلى مدخل موقف سيّارات أين وضع يده على كتفه الأيسر فأدرك أنّ رصاصة أصابته في رقبته لتخترقها وتخرج من كتفه ودخل في غيبوبة.

بعد عمليّة جراحيّة أبقته على قيد الحياة وخلّفت له ألما جسديّا جعلته مدمنا على المورفين لفترة زمنيّة، اتجه جهاد إلى المشروبات الكحوليّة وحتى الحشيش للتغلّب على الأوجاع المضنية، لإرتفاع ثمن المورفين، وهو الذّي يتقاضى 150 دينار شهريّا (قرابة 80 يورو).

يوضح جهاد مبروك وضعه الإجتماعي والنّفسي بالم “أنا كأغلب من في سنّي فلا أرى أي مستقبل لي فقبل ما يعرف بالثّورة كنت اتقاضى قرابة 2000 دينار  بكوني تقني سامي و الأن اعمل في مشرب بمعهد ثانوي في محافظة أريانة بمقابل 150 دينار أحاول من خلالها تغطية مصاريفي رغم ان تكلفة الأدوية وحدها تقارب 750 دينار (400 يورو) وأقطن مجانا لدى عائلة لا تجمعني بهم سوى حبّهم لي و إرادتهم مساعدتي”.

الألم الذي يحسّ به جريح الثّورة لا يضاهي شعوره بالخيبة بعد قرابة ثلاث سنوات من تقديم دمه فداء للحريّة حسب تعبيره، فأكثر ما يولمه إستغلال الاحزاب السياسيّة للشباب الذي لا يمثّل سوى زاد بشري يوظّفونه للضغط ورفق سقف مطالبهم وتحسين شروط التّفاوض، ويلغونه حين يتعلّق الامر بإتّخاذ القرار.

“عندما نقوم باي تحرّك تحاول الاحزاب إختراقنا لتوجيه اهداف التحرّك وفق مصالحها. ليلة إغتيال النّائب محمد البراهمي توجّهت رفقة عدد من الشّباب وأعلنّا اعتصام الرّحيل للحكومة التي لم تستطع حماية الشّعب من الإرهاب، وحشدنا مئات الشبّاب الذي لم يفقد روح النّضال بعد، فزارنا سياسيّون من المعارضة وأبدوا مساندتهم لمطالبنا، ولكن كما يعلم الجميع زرعوا شبابهم بيننا وشاركنا بعضهم في الإعتصام ومن ثم اقصونا وإعتدوا علينا حتّى، وأصبحوا يتحدّثون بإسمنا ووظّفونا لحساباتهم السياسيّة”، بهذا المثال إستشهد الشّاب.

رغم آلام الجرح ومآل شباب دفع دمه ثمنا لثورة اُختطفت منه لم تفتر همّة جهاد فمازال ينشط في كل لجان مساندة القضايا التي يؤمن بها، وأسس حركة “الشباب يريد” في بداية 2012 رغم حالته الصحيّة الصّعبة، ومن ثم ساهم في بعث “الحركات الشبابيّة الثّورية”، ويسعى حاليّا رفقة آخرين لخلق نواة شبابيّة واعية في داخل البلاد، “تتحرّك بمنأى عن كل الأحزاب والإيديولوجيّات لهدف واحد شريف هو التخلّص من الظّلم والمضي قدما نحو حريّة و عيش كريم طال تعطّشنا لتذوّقهما”، كما قال محدّثنا.

أكثر ما يسعى جريح الثّورة الشّاب لمحاربته بإصرار هو “دمغجة” الشّباب سواء لدفعهم للشّارع لخدمة الأحزاب السياسيّة أو إرسالهم لسوريا للجهاد، فالأمر سيّان من وجهة نظره إذا ما كان الشّباب مجرّد دمى يحرّكها الشّيوخ فيما هو مستقبل البلاد ومخزونها، دافعه في ذلك إحساسه بالخجل من دمه الذي سال بغزارة لتغّيير وضعيّة الشبّاب والبلاد التي ساءت.

أغلق جهاد سترته لتخفي أثر الجرح الذي التئم بعد أسابيع من الإصابة برصاصة لم يُعرف إلى السّاعة مُطلقها. جرح لا يزال ينزف لوعة وحرقة لوضع شباب خفت نور روحه.