جسد نحيف، وجه طفولي أسمر، قفص حمامة بيضاء، قميص يحمل عبارة “لا أريد ن أكبر أريد أن أظل طفلا”، وشال فلسطيني يحمل أكثر من معنى. وديع الجلاصي ذلك الفتى الذي التقطته عدسات المصورين وجابت صورته جل وكالات الأنباء العالمية يوم 14 جانفي/ يناير 2011 أمام وزارة الداخلية رافعا قفصا أطلق منه الطائر المسجون في إشارة إلى قرب تحرر الشعب التونسي الذي سجن 23 سنة تحت سياط نظام بن علي.

جسد نحيف، وجه طفولي أسمر، قفص حمامة بيضاء، قميص يحمل عبارة “لا أريد ن أكبر أريد أن أظل طفلا”، وشال فلسطيني يحمل أكثر من معنى. وديع الجلاصي ذلك الفتى الذي التقطته عدسات المصورين وجابت صورته جل وكالات الأنباء العالمية يوم 14 جانفي/ يناير 2011 أمام وزارة الداخلية رافعا قفصا أطلق منه الطائر المسجون في إشارة إلى قرب تحرر الشعب التونسي الذي سجن 23 سنة تحت سياط نظام بن علي.

وديع، 24 عاما، الذي يعمل نادلا في ناد للمحامين، هو مثال للشباب التونسي الذي شارك في صنع ما يسمى بربيع الثورات العربية عندما نزل وسط حشود التونسيين للمساهمة في إسقاط النظام السابق.

“قبل الثورة لم أكن متحزبا ولا مهتما بالشأن السياسي، كنت كمعظم شباب تونس أبحث عن لقمة العيش بعد ان انقطعت عن الدراسة في سن مبكرة. كان حلمي الوحيد أن أجد طريقة أحقق بها ذاتي عبر العمل في قطاع التنشيط الشبابي أو أن أنشط في فرقة مسرحية”. ويتابع “كنت في لحظات اليأس أفكر في الهجرة غير الشرعية وركوب البحر بحثا عن أفق أرحب في الضفة الثانية للمتوسط”.

ينظر في الأفق بعينين يمتزج فيهما الأمل باليأس وكأنه يبحث عن حلم ضائع، ثم يواصل حديثه عن يوم 14 جانفي/ يناير 2011 فيقول “يومها تحولت صحبة صديق لي من الحي الذي أقطنه إلى سوق المنصف باي بحثا عن حيوانات أليفة لأتاجر بها، وفجأة وقعت عيني على حمامة بيضاء فريدة شعرت أنها كانت تناديني فاشتريتها بدينار واحد ووضعتها في القفص الذي جلبته معي للغرض، ولكن في الأثناء انتابني احساس بالذنب لأني أسجنها وكنت أود إطلاق سراحها في أقرب فرصة”.

جنازة الشهيد والتحول المفاجئ

في طريق عودته من السوق كانت جحافل المحتجين تتزايد كل دقيقة وكان الاستنفار الأمني على أشده في شارع محمد الخامس. وكان البوليس يحاول بكل الطرق منع المتظاهرين من الوصول إلى شارع الحبيب بورقيبة و مقر وزارة الداخلية في العاصمة تونس.

لكن الاستعمال الكثيف للغاز المسيل للدموع وهراوات الشرطة لم تمنع المتظاهرين من تخطي كل الحواجز الأمنية والمرور بجنازة أحد الضحايا الذين سقطوا يوم 13 جانفي/يناير برصاص القناصة من الوصول إلى أمام مقر الوزارة.

يقول وديع “كنت أشعر أن تيار الثورة يجرفني وأن طريق أحلامي بالشغل والحرية والكرامة بدأ يتعبّد وأن نهاية النظام باتت وشيكة بعد أن اتحد كل المحتجين والمجتمعين أمام مقر الوزارة من منظمات وهيئات مهنية على كلمة ديغاج (ارحل) معلنين عزمهم على إنهاء حكم بن علي”.

فتح القفص ومعه باب الحرية

يحاول وديع استحضار أدق تفاصيل ساعة سقوط نظام بن علي مطلقا بن الحين والآخر زفرات تخرج من أعماق جريحة.

ففي مساء ذلك اليوم، وسط الهتافات المنادية بالرحيل أعلنت محطات الأنباء إلى الشعب التونسي خبر مغادرة الرئيس المخلوع للبلاد. “في تلك اللحظة حملني أحد المتظاهرين على الأعناق ورفعت القفص عاليا وفتحت الباب فطارت الحمامة وأحسست أن الطائر الذي تحرر اختصر معاناة الشعب التونسي الذي تحرر وقتها من النظام الذي كتم على أنفاسه والذي صادر أحلام آلاف الشباب وفقّر لسنوات طويلة المحافظات الداخلية، قفصة وقابس وسيدي بوزيد وغيرها”.

الصورة التي جابت العالم

صورة وديع  أو “صاحب القفص” التي التقطها عدسة صحفي قيل إنه يعمل لصالح وكالة أنباء فرنسية، أصبحت منذ تلك اللحظة رمزا لشباب الثورة التونسية. لكن صاحبها يجد اليوم نفسه بعد أن شارك على امتداد أكثر من سنتين في كل الأحداث التي شهدتها البلاد، في نقطة الصفر.

“بعد 14 جانفي/يناير انفتحت شهيتي على عالم السياسة وأصبحت أكثر اهتماما بالشأن العام، وبما أن صورتي صارت معروفة، حاولت العديد من الأحزاب استقطابي واستثمار تلك الصورة خاصة في الحملات الانتخابية للمجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، لكنني اخترت أن أساند القائمة المستقلة  لعبد الناصر العويني (المحامي الذي اخترق حظر التجول يوم 14 ونادى في شارع بورقيبة: بن علي هرب) وكنت من أكثر المساندين لتلك القائمة”.

يواصل وديع حديثه عن التحولات التي أصابته منذ التفاته إلى عالم السياسة فيقول: “كنت أثناء الحملة الانتخابية  أقلّب في خفايا خطابات السياسيين واقترب شيئا فشيئا من رموز الأحزاب، ولكن في الأثناء كانت لقمة العيش تشغلني لأني لم أتقدم ولو قيد أنملة بعد انقضاء قرابة السنة من الثورة. بقيت عاطلا عن العمل حتى ساءت حالتي النفسية وأصبحت أتردد على العيادات الطبية، فقررت الانقطاع عن العالم والإختفاء عن الأنظار”.

توفي وديع..رحل صاحب القفص

بعد انقطاع وديع عن العالم الخارجي لم ير الناس من جديد إلى أن تناقلت صفحات التواصل الاجتماعي في ربيع 2013 نبأ وفاته في حادث مرور، فخلف ذلك الخبر حالة من الذهول في أوساط الشباب التونسي. فجرى استحضار اسمه مرات عدة في مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، في ظل الأوضاع التي كانت تعصف بالبلاد وحالة التأزم التي آلت إليها، خصوصا بعد اغتيال السياسي شكري بلعيد في شباط/فيفري من العام نفسه.

مع انتشار النبأ، تلقى صاحب القفص المنقطع عن العالم الخارجي سيلا من الاتصالات الهاتفية من أصدقاء أرادوا  التأكد من صدقية الخبر. “هكذا قررت الظهور من جديد والالتحاق بحزب الطليعة ذو الميولات القومية، ثم عدت للظهور بالقفص من جديد في اعتصام الرحيل أمام المجلس التأسيسي (البرلمان) في أوت/ آب 2013 حيث أكتشف الناس أني على قيد الحياة”.

بيد أن وديع عاد هذه المرة إلى ساحة الاعتصام بقفص جديد، “قفص أخضر يرمز لخضرة تونس التي يريد الإرهابيون توشيحها بالسواد” حسب وصفه. “كما قررت رفع لافتة كتب عليها كلمة حرية، لأنني أعتبر أن الشعب التونسي لم يحصل على حريته بعد، ولأن الثورة لم تحقق أهدافها، ولأن أحلام الشباب تلاشت بين أطماع الطبقة السياسية المتناحرة على السلطة”.

نحن حراس الثورة 

“تركت باب القفص مفتوحا ولن يغلق” يقول وديع، “لأن الشعب التونسي الذي فجر ثورات الربيع العربي لن يركع للإرهاب ولن يعود إلى بيت الطاعة مهما كان الحاكم”.

ورغم مناخ الإحباط السائد في أوساط شباب تونس إثر الهزات التي طاولت الاقتصاد والمجتمع التونسيين، وحلم الهجرة الذي ما ينفك يراود وديع كلما واجه أزمة حياتية جديدة، إلا أنه يؤكد “لم ولن أقطع الأمل”.

“نحن الشباب حراس الثورة ولا ولاية لأحد علينا، فمثلما أنهى التونسيون أسطورة بن علي وحزبه بين عشية وضحاها لن تستعصى عليهم العودة إلى الشوارع من جديد”. يقول قبل أن يختم حديثه هازا القفص في يده: “نحن في انتظار ما ستؤول إليه نتائج الحوار الوطني فإما انفراج وإما انفجار”.