هناك في مكان ليس ببعيد عن العاصمة تونس يقع مصب الفضلات بجبل “برج شاكير”، تحديدا في منطقة سيدي حسين السيجومي (الضاحية الغربية للعاصمة تونس). موقع يستقبل يوميا أطنانا من النفايات بمختلف ألوانها، تجرّها شاحنات النظافة العملاقة القادمة من مختلف محافظات تونس الكبرى.
مصب “شاكير” هذا المكان لا يعدو أن يكون في مخيال عامة التونسيين سوى رمزا لـ”القرف” لارتباطه الوثيق بالأوساخ والفضلات والروائح الكريهة، لكنه بالنسبة لفئة أخرى هو محلّ قوتهم وموطن رزقهم اليوميّ.
هناك في مكان ليس ببعيد عن العاصمة تونس يقع مصب الفضلات بجبل “برج شاكير”، تحديدا في منطقة سيدي حسين السيجومي (الضاحية الغربية للعاصمة تونس). موقع يستقبل يوميا أطنانا من النفايات بمختلف ألوانها، تجرّها شاحنات النظافة العملاقة القادمة من مختلف محافظات تونس الكبرى.
مصب “شاكير” هذا المكان لا يعدو أن يكون في مخيال عامة التونسيين سوى رمزا لـ”القرف” لارتباطه الوثيق بالأوساخ والفضلات والروائح الكريهة، لكنه بالنسبة لفئة أخرى هو محلّ قوتهم وموطن رزقهم اليوميّ.
يتوافد على هذا الموقع عشرات الأشخاص كهول وأطفال سُمرُ البشرة وغُبرُ الهندام، لا يميّزون ليلهم من نهارهم ولا شتاءهم من صيفهم، يلبسون من أقذع الملابس ويأكلون من أفظع القوت، هؤلاء هم “البرباشة”.
يوميات البرباشة
“البرباشة” هو المصطلح الذي أطلقته السلّطات المحليّة على الوافدين على مصب الفضلات، فأصبح بتعاقب الزمن تعريف لأصحاب هذه المهنة. زارت “مراسلون” مصب برج “شاكير” أملا في متابعة يوم من يوميات “البرباشة”.
تنطلق القصة من الباب الرئيسي للموقع المسيّج بأكمله، يحتوي على مركز للأمن يشرف عليه شرطيان أو ثلاثة على أقصى تقدير. يحاذي الموقع إدارة المؤسسة الايطالية المتعددة الجنسيات التي تسهر على استقبال مئات الأطنان من الفضلات لدفنها في جوف الأرض، حسب المواصفات العالمية للتخلص من النفايات، وذلك في إطار اتفاق بين هذه المؤسسة ووكالة التصرف في النفايات التابعة لوزارة التجهيز والبيئة التونسية.
تبدأ التراجيديا اليوميّة لـ”البرباشة” فور توافد شاحنات النظافة ليتسابقوا بلهفة أيّهم الأسرع لنبش وفرز ما تلفظه الشاحنة.
بنهم شديد وبحركات تعكس خبرة ودقة لا متناهية يفصلون ما ينفعهم من مواد أكثرها معد للبيع. منها ما يصلح لإعادة التدوير (الرسكلة) كالبلاستيك والمعادن (نحاس ورصاص وحديد وألمنيوم…) وبعضها للاستعمال الشخصي كالملابس والألعاب وبقايا الأكل.
ظروف عمل “البرباشة” أقل ما يقال عنها أنها مزرية، يتعرض هؤلاء يوميا الى جروح وكدمات وكسور. وبسبب العمل في مثل هذه الظروف يفقد عدد من البرباشة حاسة الشم تماما فيما يشتكي آخرون من آلام صدرية وتنفسية وأخرى في العظام.
وسجل الموقع حادثة وفاة عجوز انهمكت في النبش فدهستها شاحنة الفضلات فأردتها قتيلة، حسب ما أكده حسين البوثوري، أحد البرباشة.
البوثوري قال لـ “مراسلون”: “نحن أحياء أموات لا أحد يسأل عن أحوالنا ولم نر من السلطات سوى وعود واهية”. ويضيف أنه لم تعد لديهم ثقة لا في الحكومة ولا في وسائل الإعلام التي تنقل مأساتهم “دونما فائدة تذكر”.
خبرة في المجال
وليد مهندس مختص في رسكلة النفايات قال لـ “مراسلون” إن مصب “برج شاكير” يعد أهم متنفس للعاصمة ومن بين أكبر مصبات النفايات المراقبة من حيث المساحة، إذ يتوافد عليه ما بين 100 و150 “برباشا” أغلبهم من القدماء لديهم من الخبرة ما يتجاوز 10 سنوات في هذه المهنة رافقوا المصب منذ أن كان في موقع السابق المعروف بـ “اليهوديّة” المتاخمة لسبخة السيجومي جنوب محافظة بن عروس.
وأضاف وليد يتوافد “البرباشة” طوال ساعات النهار والليل بأعداد كبيرة رجالا وأطفالا ونساء تبدو على جميعهم علامات الفقر الشديد يحرصون على جمع أكبر قدر من المنتوجات ليبيعوها لحسابهم الخاص.
وعن علاقة إدارة المؤسسة الايطالية بـ”البرباشة” أفاد وليد أنها علاقة من نوع خاص، فهم من جهة يمثلون عائقا كبيرا يعطل قيام الأعوان بواجبهم على أحسن وجه، ومن جهة أخرى يمثلون عنصرا مساعدا في منظومة الرسكلة، باعتبارهم يسهرون على تفكيك النفايات وفرزها وهو مكسب بيئي على حد تقديره.
وتعتبر المفروزات ثروة “البرباش” يستميت في الدفاع عنها بكل ما أوتي من جهد وقوة، يجمعها بعيدا عن الجرّافات العملاقة التي تدفن ما يعترضها من نفايات.
وعلى عين المكان يبيع “البرباش” في نهاية يومه المليء بالمتاعب ما حصده من “النبش”. وعلى تخوم الموقع تجد “الوسطاء” وقد تراصت شاحناتهم وأعدوا موازينهم ليكيلوا المحصول فيدفعون ثمنا بخسا قبل أن يعيدوا بيعه لنقاط شراء المواد المرسكلة.
أحمد البوثوري شاب لم يبلغ عقده الثالث بعد أفادنا بأن “البرباش الواحد يتراوح محصوله بين 10 و 15 كيلوغرام من القوارير البلاستيكية، يبيع الكيلوغرام الواحد منها بـ 0.4 دينار أي ما يناهز 0.18 يورو، لكن الوسيط يبيعه بـضعف ذلك السعر. ويضيف أحمد “لا نملك خيارات كثيرة إلا أن نبيع لهؤلاء فليس أمامنا وسيلة أخرى لنقل ما جمعناه”.
عائلات تهيمن على الموقع
لا تشاهد في مصب “شاكير” ما يجلب الانتباه سوى أكوام كبيرة من القمامة والنفايات تنبعث منها رائحة جد كريهة وروائح غازات، هي في أغلب الظن غاز “الميتان” الذي تنتجه الشركة المستغلة من وراء رسكلة بعض المواد العضويةّ.
تجلب انتباهك عند سياج المصب أكواخ صغيرة على تخوم الموقع سقفها باب “ثلاجة” أو خلفية “سيّارة” وجدرانها من الحجارة التي يزخر بها سفح جبل “شاكير” وفراشها من “الكراتين”.
ناصر أصيل محافظة سيدي بوزيد (مهد الثورة التونسية) أبلغنا أنه يبيت في الصيف والربيع تحت ذلك السقف. وهو يرابط بالمكان أسابيع يقتات من بقايا الأكل والحلويات حتى يجمع مبلغا يخوّل له العودة إلى مسقط رأسه.
من هذا العمل يعيل ناصر ابنائه الخمسة ويكسوهم ويقضي معهم نهاية أسبوعه قبل أن يعود أدراجه ليواصل رحلته في أحضان مصب برج “شاكير”.
ويؤكد ناصر أنه التحق بهذه المهنة المضنية لأنه لم يجد مورد رزق غير هذا الذي دفعه ليهجر أهله وأرضه القاحلة التي ماتت عطشا.
سلطة “العائلة” هي آلية الاحتكام وفض النزاعات في مسرح برج شاكير. أربع عائلات قوية لها الحق حصريا في جمع المحاصيل. وعادة ما تجد أسرة بحالها تعمل بصفة تشاركيّة لتجميع أكبر قدر من محصول “النبش” يستعينون بالأطفال والنساء كتعزيز.
يختص “البرباشة” حسب المواد المجمعة، منهم من يركز اهتمامه في جمع المعادن أو “الكراتين” أو “البلاستيك” أو الملابس القديمة أو بقايا الخبز الذي يباع كأعلاف للمواشي.
مجتمع خاص
أغلب الوافدين وهم معلومو الهوية لدى السلط المحلية هم من المنقطعين مبكرا عن الدراسة وأميون لا يجيدون القراءة ولا الكتابة بينما تجد بعض المنحرفين الذين أوصدت في وجوهم أبواب الوظائف نظرا لسوابقهم العدلية حسب ما أفادنا به الدكتور حسان موري خبير علم الاجتماع الذي أنجز دراسة ميدانية حول هذه الظاهرة.
ورغم إهمال السلطات، نجح “البرباشة” في التأقلم مع محيطهم الرديء، فصنعوا لأنفسهم “مجتمعا” خاصا تقاسموا الأدوار فيه بعيدا عن ضوضاء المدينة وأضوائها. تنظموا فيما بينهم شعارهم البقاء للأقوى ولا مجال لدخلاء على المهنة.
رؤساء المجموعات هم من كبار “العائلات” وبينهم حُماة المحصول من الشباب الأشد بنيّة. وأما الأطفال ففي الصفوف الأمامية يقومون بدور الكشافة أثناء سباق غزو أكوام القمامة. بينما السلطة العليا هي لمراقبي الشركة المستغلة الذين يتابعون عن كثب، ولضابط الشرطة الذي يراقب عن بعد.
ينتهي يوم “البرباش” ببيع محصوله وهي أهم تفاصيل ذلك اليوم، فيجمع عادة بين 10 إلى 20 دينار للفرد (ما يقارب 4.5 يورو إلى 9 يورو) قبل أن يعود إلى بيته ليستعد ليوم تراجيدي جديد في مسرح مصب “شاكير”.