ظلت المناهج التعليمية في ليبيا قرابة ثلاثين عام دون إدخال أي تطوير عليها، وذلك إبان حكم النظام السابق. إذ مرت منذ بداية الثمانينات بمرحلة من التخطيط المتخبط تبعاً للأهواء السياسية، وتم اعتماد فلسفات هجينة غير مترابطة وغير مستمرة.

يقول نوري كرناف رئيس قسم التعليم الثانوي بإدارة المناهج الدراسية بوزارة التربية والتعليم إن التوجهات السياسية مع بداية الثمانينيات اتجهت نحو إلغاء الثانوية العامة تدريجياً، واستبدالها بالثانوية التخصصية، وسمي المشروع بالبنية التعليمية الجديدة، فأنشئت 27 ثانوية تخصصية بما في ذلك ثانوية العلوم الأساسية إضافة إلى تخصصات أخرى، ألغيت فيما بعد وتم الإبقاء على ثانوية العلوم الأساسية جنباً إلى جنب مع الثانوية العامة.

ويتابع كرناف “مع نهاية فترة التسعينيات ألغيت الثانوية العامة والعلوم الأساسية، وتم تعديل البنية التعليمية الجديدة بتطبيق التعليم الجديد التخصصي، والذي أخفق هو الآخر واستبدل بالثانويات التخصصية (نظام الشعب)، باستخدام مناهج محلية”.

وفي عام 2009 يروي كرناف لـ “مراسلون” أنه “تم تغيير المناهج التقليدية المحلية في العلوم والرياضيات لكل المراحل الدراسية، واستبدلت بالمناهج السنغافورية المترجمة، كما تم الاستعانة بخبراء بريطانيين لتأليف مناهج اللغة الإنجليزية”.

مسار ثالث

بعد الثورة كان لا بد من وضع نهاية لكل ذلك التخبط، واعتماد سياسة تعليمية ثابتة تعتمد على استراتيجية طويلة الأمد، ولهذا قررت الحكومة السابقة في نيسان/أبريل 2012 العودة إلى نظام الثانوية العامة، وبدأ تطبيقه في العام الدراسي الجديد (2012 – 2013)، ليتفاجأ العديد من خبراء التعليم وأولياء الأمور بأنه تم اعتماد ثلاثة مسارات للثانوية العامة بدل المسارين العلمي والأدبي، حيث أضيف إليهما المسار الاقتصادي.

وزير التربية والتعليم علي عبيد يقول لـ”مراسلون” إن عقبات كثيرة واجهت العودة إلى نظام المسارين، لأن الطلبة في الصفين الثاني والثالث الثانوي يحتاجون لمعادلة ما درسوه من مواد ودراسة مواد جديدة تماماً حتى يتمكنوا من الحصول على الشهادة الثانوية.

ويوضح عبيد “عملنا جهوداً جبارة للعودة إلى نظام المسارين، كان هناك مقترح به كتلة واحدة و15 مادة اختيارية (15 تخصص)، أي أنه يلزم توفير 15 فصلاً إضافياً غير الفصول الموجودة في المدرسة أصلاً، ما سيضطرنا لتوفير معلم لثلاثة طلاب فقط أو لطالب واحد في بعض الأحيان”.

ويضيف “قمنا بحل المشكلة بوضع 3 مسارات ( أدبي، علمي، اقتصادي) وهذا اضطرنا إلى تعيين أعداد جديدة من المعلمين المتخصصين لتدريس المسار الاقتصادي”.

المناهج السنغافورية

كانت المناهج السنغافورية بمثابة التغيير الأول الإيجابي في مسار العملية التعليمية، من حيث تنظيم الخطة الدراسية والأهداف التعليمية الواضحة، والكتاب المدرسي المليء بطرق جديدة متطورة في التعليم تتناسب مع هذا العصر، إضافة إلى وجود دليل للمعلم وطرق تقييم جديدة.

لكن تلك المناهج لم تخلُ من الأخطاء التي كان يلزم تصحيحها، لاسيما بعد وصول ملاحظات من خبراء في تلك المواد إلى وزارة التعليم. وفي كانون الثاني/ يناير 2012 تعرض مسؤولو المناهج في النظام الجديد للانتقاد من قبل متخصصين علناً وفي اجتماعات خاصة لعدم التفاتهم الجدي لتصحيح الأخطاء التي لم يتم تصحيحها وإعادة تقييم مواضيع كان من المفروض عدم إدراجها في بعض الفصول الدراسية.

وأعطيت أمثلة على تلك الأخطاء من كتاب الرياضيات للصف السادس الابتدائي، والذي يحتوى تدريبات لا يتمكن معظم معلمات ومعلمي المادة من حلها لصعوبتها، بل و أعطيت هذه المسائل لطلبة في المرحلة الثانوية وما استطاعوا حلها، وكذلك بعض مسائل قبعات التفكير لايستطيع حلها معظم مفتشي المادة، وقد طالب الخبراء أن يلغى هذا الموضوع من الصف السادس ابتدائي ويتم تدريسه في مراحل أعلى.

يضيعون وقتهم

الآن بعد مرور عامين على تلك الملاحظات يقول وزير التعليم “هذه الأخطاء موجودة، ونحن نملك أذنين فقط ولا نستطيع أن نستمع إلى مليون إنسان يتكلم  وينتقد، والوقت يقتلنا”.

وفي انتقاد مباشر لخبراء التعليم في الوزارة يقول الوزير “نعم هناك خبراء تعليم في ليبيا يأكلون ويشربون ويضيعون أوقاتهم مثل بقية الناس التي تضيع وقتها”، معترفاً بأن الخبراء الذين يعملون معه لا يقدمون شيئاً.

ومن جهتهم يقول خبراء المناهج أن المنهج السنغافوري المتطور قد جُلب وفق خطة غير مدروسة، أي من غير استراتيجية، فكان المعلم غير مؤهل لإعطاء المنهج بالطريقة الصحيحة، ولم تتوفر المعامل ووسائل الإيضاح، إلى جانب ارتفاع عدد التلاميذ في الفصل الواحد، والذي وصل في العديد من الفصول إلى أكثر من أربعين تلميذاً. مؤكدين أن المنهج السنغافوري يحتاج لمقومات إذا لم تتوفر فلن يفي بالغرض وسيصبح منهجاً متخلفاً وليس متطوراَ، وستكون النتائج سلبية.

طرق تدريس تقليدية

كانت طريقة التدريس في ليبيا منذ عقود هي طريقة الإلقاء والتلقين، فالتواصل بين المعلم وطلابه في اتجاه واحد، حيث يكون دور المعلم مرسلاً ودور المتعلم مستقبلاً، ويؤدي هذا النمط إلى ضعف فاعلية التدريس والإدارة الصفية، مع إحباط دافعية الطلاب وقصور روح المبادرة لديهم.

بالرغم من تطوير المناهج في بعض المواد الدراسية إلا أن مسألة عدم قدرة الكثير من المعلمين على شرحها بالطريقة التي تناسب مستوى التلاميذ ظل عائقاً دون إنجاز الأهداف التعليمية المرجوة من تلك المناهج.

أحمد عبد الحميد وهو معلم يقول “هناك مشكلة حقيقية في عدم تماشي هذه المناهج  والعقلية الحالية للطلبة، والأهم والأخطر هو عدم قدرة العديد من المعلمين على فهم تلك المناهج، وبالتالي توصيلها للطلاب”.

وقد أعطيت بحسب عبد الحميد دورات تدريبية لمعلمي ومعلمات الرياضيات والعلوم في استخدام طرق تدريس حديثة، قبل البدء في التطبيق العملي للمناهج الجديدة، ولكن عندما حاول البعض استخدامها قوبلت بالرفض من قبل بعض أولياء الأمور في بعض المدراس، و الذين اعتبروا أن تلك الطريقة أشبه باللعب وليست طريقة جدية للتعلم، مما اضطر المعلمين للعودة إلى الطرق التقليدية من جديد.

أيضاً المناهج السنغافورية، يقول عبد الحميد “تتطلب مهارات استخدام الكمبيوتر والإنترنت من قبل المعلم كما الطالب، لكن هناك مشكلة في أن العديد من معلمي ومعلمات تلك المناهج يفتقرون إلى هكذا مهارات”.

الامتحانات الالكترونية

تعتمد الوزارة في امتحانات شهادة إتمام مرحلة التعليم الأساسي والثانوي على طرق الامتحانات الالكترونية، والتي تكون فيها الأسئلة متعددة الخيارات ويقوم الكمبيوتر بتقويم إجابات الطالب في زمن قياسي.

وبحسب الخبراء فإن هذه الطريقة غير علمية وغير مجدية وغير صحيحة للتقويم في كثير من المواد الدراسية، خاصة الرياضيات واللغة العربية والانجليزية وغيرها من المواد التي تحتاج إلى أن يعبر الطالب بنفسه بلغة واضحة ويحلل المسائل، لأن الناتج النهائي في مادة مثل الرياضيات لا يمثل إلا جزءاً بسيطا من الحل، وتقييم الطالب يعتمد على مدى معرفته لطريقة الحل.

وزير التعليم له رأي آخر فهو يرد على مراسلون بالقول “من قال أننا نبحث عن الطريقة العلمية لتقييم الطالب، الطريقة التقويمية العلمية في نظري ليست بالامتحانات، ففي دول الاسكندنافية يستطيع المعلم أن يقيم طلبته بدون أن يجري لهم امتحانات تقليدية، وهناك طرق أخرى للتقييم غير تلك التقليدية”.

المستوى العام متدني

ويعلل وزير التعليم استخدام تلك الطرق الالكترونية وعدم استخدام الطرق التقليدية في الوقت الحالي أو استخدامهما معاً مثل باقي دول العالم ذات التعليم الجيد، بعدم وجود مصححين أكفاء وضعف مستوى المعلمين أنفسهم  بشكل عام، وعدم قدرتهم على التقييم الصحيح.

فهم بحسب الوزير “لا يستطيعون أن يتكلموا بلغة عربية فصيحة وواضحة”، وكذلك ضعف مستوى التلميذ الذي “لا يستطيع أن يعبر عن أفكاره ومعلوماته بلغة سليمة مكتوبة، وبالتالي لا يستطيع المعلم فهم ما يكتب التلميذ”، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الطلبة المتقدمين للامتحانات، فعدد طلبة الشهادة الثانوية العامة يتجاوز 80 ألف تلميذ بينما يتجاوز عدد تلاميذ الشهادة الإعدادية 150 ألف تلميذ.

كما يؤكد الوزير أن المنظومة الإلكترونية صُممت لتفادي الغش المباشر في الامتحانات، والذي “لا تخلو منه معظم المدارس في ليبيا” بحسب قوله.

ويدافع الوزير عن وجهة نظره قائلاً “لو استخدمت الطريقة الالكترونية بشكل علمي جيد لأعطت نتائج جيدة، فكلية الطب تستخدم طريقة الاختيار من متعدد، وامتحان اللغة الانجليزية (التوفل) كذلك”.

ومع ذلك يُقرُّ وزير التعليم بأنه “لا توجد دولة في العالم تعتمد فقط على الطرق الالكترونية للامتحانات، لأن نسبة نجاح التلميذ فيها 25% حتى وإن لم يدرس المنهج أبداً ولا يعرف عنه شيئاً”.

ويحذر خبراء من أن استمرار التخبط في سياسات التعليم قد يكون له أثار حاسمة على مستقبل ليبيا على أكثر من صعيد، مؤكدين أن استيراد أي مناهج أو طرق تدريس جديدة من أي دولة متقدمة لن يؤتي ثماره ما لم يأخذ بعين الاعتبار احتياجات الطلاب وواقع البنية التحتية لقطاع التعليم في البلاد.