بابتسامة شاحبة وملامح ودودة تحاول مهرية مسعودي إخفاء ما خلفته السجون. تسير ببطء كمن يبحث عن توازن، أو كمن يرتدي جسدا ليس ملكه، أكبر من عمره بكثير.

فجأة تختفي الابتسامة، ويتخذ الوجه الاسمر الاربعيني ملامح أكثر قسوة، وأكثر عمرا حين تتذكر مهرية سنوات التسعينات. “كنت في الصف السادس الابتدائي حين بدأت محنة المضايقات البوليسية التي فرضها نضام بن علي على عائلتي ونالني نصيب منها”.

بابتسامة شاحبة وملامح ودودة تحاول مهرية مسعودي إخفاء ما خلفته السجون. تسير ببطء كمن يبحث عن توازن، أو كمن يرتدي جسدا ليس ملكه، أكبر من عمره بكثير.

فجأة تختفي الابتسامة، ويتخذ الوجه الاسمر الاربعيني ملامح أكثر قسوة، وأكثر عمرا حين تتذكر مهرية سنوات التسعينات. “كنت في الصف السادس الابتدائي حين بدأت محنة المضايقات البوليسية التي فرضها نضام بن علي على عائلتي ونالني نصيب منها”.

لثواني، يثقلها الصمت تجول مهرية بعينيها في سقف الغرفة المتواضعة التي استقبلتني بها. كمن يبحث عن علامة أو دليل ما، تردف “كنت طفلة في الثانية عشرة من عمري لما أصبحت محل مراقبة أمنية، وتهمتي هي ارتداء الحجاب”.

في بداية التسعينات، من القرن الماضي، نشب صراع على السلطة بين الاسلاميين ونظام بن علي. والتجأ الإسلاميون إلى تفجيرات في منشآت سياحية وحرق مقرات للحزب الحاكم، آنداك، ورد النظام بقمع وحشي لتيار الاتجاه الاسلامي (أصبح يسمى حركة النهضة فيما بعد) وامتد القمع ليشمل مواطنين عاديين بمجرد ارتيادهم للمساجد أو ارتداءهم للحجاب، بشبهة الانتماء لتيار اسلامي عنيف غير قانوني.

تتذكر مهرية جيدا تلك الفترة “لم أكن أفهم ما تعنيه مصطلحات من قبيل التوجه الحزبي ولا أفقه شيئا في السياسة”.

اُعتقلت مهرية في 22 حزيران/جوان 1994 رفقة ستّة من زميلاتها بتهمة الانتماء إلى جمعيّة غير مرخص لها وعقد اجتماعات سريّة. تقول وقتها “كنت صغيرة لا أعرف سوى أنني طفلة  كأترابي لي طموح وشغف في الحياة، لم أكن أعلم أنّ مجرد قطعة قماش صغيرة أضعها فوق رأسي ستغير مجرى حياتي، بل ولم أكن أعلم أنني ارتكبت جرما وأقحمت نفسي في صراعات سياسية لاعلم لي بها، دمرت حياتي، وللأسف سجنت”.

مرة أخرى تصمت مهرية وتسافر مجددا في أرجاء غرفتها كمن يهرب من قدره. ينطفئ بريق عينيها ويزداد الوجه الأسمر تجهما. تتحدث عن حياتها في غياهب سجون بن علي “الخبز الأخضر كريه الرّائحة كان قوتنا الّذي لا غنًى لنا عنه”.

كان التهديدٌ المتكرّرٌ بالاغتصاب بمثابة الهاجس الّذي يقضّ مضجعها يوميّا. “في سجن قرنبالية (شمالي تونس) كان السجّان يدعى رضا بلحاج، اعتقلت في غرفة انفرادية، قبل أن أتحول إلى سجن النساء بمنّوبة بالعاصمة حيث سجنت ورفيقاتي ثلاث سنوات مع سجينات الحق العام، وتعرضت إلى مضايقات عديدة أقلها التّحرّش الجنسي”.

تسترخي قليلا إلى الوراء تسند ظهرها إلى المقعد الخشبي، ثم تستقيم وتضغط بكلتا يديها على جانبي المقعد كمن يبحث عن التوازن. وتواصل “سمعت حكايات مفزعة عن الاغتصابات التي كانت تحصل داخل السّجن، كان بطلها أحد أعوان الأمن، يدعى فؤاد مصطفى، حيث قيل لي إنّه كان يقتاد كل مرّة سجينة إلى مكتبه ليغتصبها”.

تتنفس بعمق، وترسم ابتسامة. يعود ألق العينين الذابلتين لتضيئا الوجه الاسمر الطفولي، وتصر مهرية “وهبني الله قوة جبارة لمواجهة تلك العذابات. وانتقلت بين عنابر أكثر من سجن، تحولت من كائن إلى رقم ينتقل بين زنزانات سجينات الحق العام”.

مهرية مسعودي هي أصيلة الجريصة من ولاية الكاف (شمال غرب تونس) ولدت سنة 1967، كانت متفوقة في دراستها، محبة للعلم وشغوفة بمطالعة كل الكتب لاسيما منها كتب الفلسفة.  تقول إنها كانت تشتغل وتوفر مصاريفها فقط لشراء الكتب حتى كونت مكتبة في بيتها الصغير. وكانت تحلم بمواصلة دراسة الفلسفة، عالمها المفضل.

أفرج عن مهرية بعد ثلاث سنوات من السجن والتعذيب الجسدي والنفسي التي لا ترغب في تذكره ولا الحديث عنه، ومرّت حياتها بعذابات ألقت جسدها النحيل بين براثن المرض.

خرجت من السّجن الصغير لتجد نفسها في “سجن كبير” على حد وصفها، حيث تواصلت المضايقات والرّقابة البوليسيّة، ولم تتمكن من مواصلة دراستها ولم تتحصّل حتى على شغل لكسب قوتها.

وقامت الثورة في 14 كانون ثان/جانفي 2011 وشاركت مهرية فيها بحماس وفرح. “تصورت أنّها نهاية النفق ومرحلة ستقطع مع كل أشكال التهميش والقهر، لكن مع الأسف المعاناة لم تنته.

تعيش مهرية اليوم في نفس الحالة التي كانت عليها قبل الثورة، دون تغطية صحيّة أو اجتماعيّة ودون عمل. حالها في ذلك كحال كثيرات ممن يوصفن بالسجينات السياسيات.

تقول عن العفو التشريعي العام أنه لم يتجاوز مجرد تكريم السجينات، بل ظل هذا الملف في رفوف وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية.

العذابات التي عاشتها مهرية زمن القمع بين أروقة السّجون لم تمح، واليوم تنتقل معاناتها إلى أروقة المستشفيات، حيث أجرت عملية جراحية للمرّة الثالثة على التوالي، عملية جراحية لم تتكفل بمصاريفها الدولة.

تختنق الكلمات في حلق مهرية مسعودي. تصمت وتغمض عينيها لتخفي دمعة طالما تعوّدت ذرفها طيلة سنوات القهر والاضطهاد. وتخلص “مازال الأمل يحدوني أن ترد الثورة اعتبار كل مظلوم”.