في حوار خصّ به موقع “مراسلون” أجاب عبد الحميد الجلاصي على علاقة النهضة بالسلطة وبالمعارضة وبالشعب التونسي وكذلك على ما تخشاه الحركة في المستقبل.

وفي ما يلي نص الحوار:

مراسلون: بين نهضة النضال وسنوات الجمر ونهضة السلطة والحكم، هل فرضت براغماتية السياسية والواقع تغيّرا في الرؤى والمواقف الايدلوجية لحركتكم ؟

في حوار خصّ به موقع “مراسلون” أجاب عبد الحميد الجلاصي على علاقة النهضة بالسلطة وبالمعارضة وبالشعب التونسي وكذلك على ما تخشاه الحركة في المستقبل.

وفي ما يلي نص الحوار:

مراسلون: بين نهضة النضال وسنوات الجمر ونهضة السلطة والحكم، هل فرضت براغماتية السياسية والواقع تغيّرا في الرؤى والمواقف الايدلوجية لحركتكم ؟

الجلاصي: من أبرز سمات ما بعد الثورات، هو التحوّل أو الانتقال. فالثورة فاجأت النخبة السياسية بأكملها وكان مطلوب من هذه النخبة أن تتكيّف، بعد أن تشبّع المشهد السياسي الحالي طيلة أربعين سنة بثقافة الاحتجاج والجدال وليس الحكم.

إن تغيّر المواقع السياسية قد يبدو سهلا لكن تغيّر الثقافة وتغيّر الذهنية هو المسألة الصعبة. واذا كانت بلادنا تشهد ثورة مستمرة فان حركة النهضة أيضا تشهد ثورة في ثقافتها السياسية وفي طرق الاشتغال في الحكم. وفعلا نحن نعاني في داخلنا جملة من العوائق والصعوبات، لكن أعتقد أن حركة النهضة فاقت كل من في المشهد اليوم من خلال قدرتها السريعة على التأقلم مع المستجدات.

الأحزاب التي اختارت المعارضة ما تزال تراوح في ثقافة وذهنية السبعينات في الاشتغال السياسي، وإذ كان البعض يتخيل أن التوافق او التشارك الذي تحرص عليه الحركة هو مجرّد خيار سياسي فان ذلك غير صحيح. إن التوافق او التشارك هو قناعة فكرية، وبالتالي فتعاملنا مع هذه المسائل الجوهرية كقيم الحرية والتعددية والتشاركية وحقوق النساء لم يكن من منطلق الانتهازية السياسية بل كقناعات راسخة منذ البداية.  

بل أن ذلك من قبيل الاجتهاد الفكري داخل الحركة ومن أدبياتها التي نظّر لها الشيخ راشد الغنوشي الذي لا يعتبر زعيم السياسي للحركة بل كذلك هو أكبّر مجدّد لفكر الاسلام السياسي وأيضا الدكتور عبد المجيد النجّار خاصّة فيما يتعلّق بمقاصد الشريعة وكيف تكون مسلما ومعاصرا في الآن ذاته.

إن التحدّي الذي كان مطروحا على الحركة ما بعد الثورة هو كيفية التوفيق بين ثلاثة مسارات متوازية: إعادة بناء المجتمع حتى يتحسّن ومسار إعادة بناء الدولة ومسار إعادة بناء حركة النهضة، التي فاجأت الجميع ببرنامج انتخابي حول تونس كما نحلم بها ونراها في المستقبل اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.

س: اختارت الحركة بعد الانتخابات السلطة فهل كان ذلك من قبيل اللهفة على الحكم أم كان خيارا متعقّلا فرضته سياقات معينة؟  

ج: في شهر جويلية /تموز 2011 اجتمع مجلس الشورى وكان هناك انتخابات بعد ثلاثة أشهر، وحينها كانت آراء الهيئة التأسيسية متفقة أن الحركة ليست جاهزة بعد لا على مستوى البرامج ولا على المستوى الهياكل للحكم. و قد عقدنا العزم حينها ان دخولنا للانتخابات سيكون بهدف الفوز للمشاركة الفعّالة في صياغة دستور الدولة، ولكن بعد الانتخابات وقع طرح سؤال جوهري إن لم نتقدّم نحن للحكم من سيحكم؟

في تلك الفترة كان الجهاز الوحيد القادر على الاشتغال وملء الفراغ في الدولة هو الجهاز القديم، وهذا كان كفيلا لنتقدّم بكل شجاعة لإدارة شؤون الدولة، رغم أننا لم نكن جاهزين لتلك المرحلة الدقيقة.

أحيانا أنت لا تختار موقعك السياسي لكن ظروف معينة تفرض عليك اختيارا معينا، فالسلطة بالنسبة إلينا كانت مجازفة ولم تكن غنيمة كما تصوّر البعض.

س: هل ندمتم اليوم على هذه المجازفة كما تسميها أنت؟

ج: لا، ولو طرح علينا الأمر ثانية سنختار نفس الخيار من أجل مصلحة الوطن، رغم أننا لم نكن حركة مهيكلة جيّدا ولم تكن تملك أدوات الحكم، و رغم أن حدة التجاذبات الايديولوجية والصراع السياسي الذي ساهم في تعطيل المسار و تعكير الأجواء. نحن نفتخر بما قمنا به، ولو أعيد الزمن إلى الوراء قد نقوم ببعض التعديلات ولكن في الأصل كنّا سنعيد خيارنا في الحكم ،لأنه الاختيار الأسلم بالنسبة للبلاد.

س: هل تعتقد أن تجربة الحكم الموصوفة بالفشل من أكثر من طرف قد أفقدت الحركة جزءا من شعبيتها؟

ج: تجربة الانتقال الديمقراطي  هي في النهاية صراع وحرب مفتوحة بين القوى الثورية وقوى الثورة المضادة. وهذه القوى لا تتمثّل في مكونات الدولة العميقة فقط بل أيضا في الرواسب الايديولوجية. وبعض معارضي الحركة، يعارضونها ليس في أدائها بل في أصل وجودها و يشكّكون اليوم في امكانية وجود مشروع للحركة يجمع بين الأصالة والحداثة. وهذه تولّد بدورها صعوبات في الحكم قد تؤثّر على شعبية أي حزب يحكم في ظروف مشابهة. ورغم أن السياسي المحترف يراهن على قبوله الشعبي لكن نحن راهنا على مسؤوليتنا في إنجاح المسار الانتقالي ككل. وراهنا على الخروج والوصول بالبلاد إلى شاطئ الأمان، حتى ولو كان الثمن استياء بعض قواعدنا أو حنق جزء من الشعب عمّا يراه هو تعثّرا في الأداء السياسي.

س: هل تخشى حركة النهضة مغادرة الحكم؟

ج: لا، نحن لا نخشى مغادرة الحكم

س:هل تعتقد أن التونسيون سيراهنون، في الانتخابات القادمة، على حركة النهضة مجدّدا؟

ج: نعم الشعب التونسي سيراهن على حركة النهضة مجدّدا. رغم انه قد يكون اليوم متذمّرا نوعا ما من حركة النهضة.  لكن يوم الانتخابات سيجازي خيرا النهضة ويكرّمها على مجهوداتها. ولان منافسيها لم يكونوا في مستوى الشعور بالمسؤولية، فكثير من الأطراف وفي خضمّ الصراع السياسي عمدت حتى إلى التلاعب بالدولة.

الحركة لا تخشى الانتخابات لأن مشروعها ليس مشروع حكم فقط بل هو مشروع للاشتغال على الثورة الثقافية وهو ما منحنا الانتشار والقاعدة الشعبية. وحتى ولو شاءت الانتخابات القادمة أن نكون في المعارضة سنكون معارضة نزيهة وشريفة كما كنّا نزهاء وشرفاء في الحكم.

س: هل يؤلمك وأنت نائب الرئيس القول أن زمن النهضة كان زمن الاغتيالات وزمن الإرهاب وزمن تعطيل دواليب الدولة؟

ج:أنا تنتابني مشاعر مختلطة من جرّاء ذلك لكن أهم شعور هو شعوري بالغبن عندما استمع الى هذه المقولات “الشعبوية”، فكل ما ذكر هو من تداعيات عسر مرحلة الانتقال الديمقراطية.

إن ما يؤرق الحركة حقيقة اليوم هو صعوبة الأوضاع الاقتصادية والأوضاع الامنية، بما فيها من مخاطر داخلية وخارجية.  لكن المقلق أكثر هو القدرة على استكمال المسار الانتقالي فدون ترسيخ قيم الحرية والتداول السلمي على السلطة لن تتحقّق استحقاقات الثورة الجوهرية الكرامة والعدالة الاجتماعية وحرية الفكر والتعبير.

س:هناك من يتهمكم اليوم بأنكم تحاولون إفشال مرحلة الانتقال الديمقراطي لتمديد بقاءكم في الحكم، ما تعليقك على الأمر؟

ج: سيذكر التاريخ يوما ما أن حركة النهضة من الأحزاب القليلة وقد تكون الوحيدة التي وافقت على تسليم الحكم دون انتخابات ودون أن يسقطها الشارع. ونحن وافقنا أن نتخلّى وبرغبتنا وانطلاقا من مسؤولية وطنية من أجل حكومة توافق وطني بشرط استكمال بقية مسارات التأسيس كالدستور والانتخابات.  

س: يقال أن الحركة تخشى مغادرة السلطة خوفا من المحاسبة أو الانقلاب عليها؟

ج: لا خوفنا ليس متعلّق بالحركة.  صحيح لدينا خوف وخشية حقيقة لكن على مسار البلاد كأن يتم تأجيل الانتخابات.

س: ما هو الحزب أو الأحزاب السياسية التي تراها اليوم ملتزمة بقواعد اللعبة السياسية النظيفة ؟

ج: في الإجمال هناك تيار وسطي محترم يتمثّل في أفاق تونس والحزب الجمهوري والتحالف الديمقراطي، وهو تيار عقلاني و براغماتي ومعتدل و نحن نحترمه لذلك  كنّا نود لو كان الائتلاف الحاكم رباعي أو خماسي وليس ثلاثي فقط. فنحن مقتنعون أن بلادنا للخمسة عشر سنة القادمة لن تحكم إلا بالتحالف والتوافق.

س: منذ أيام انسحب قيادي بارز في حركة النهضة وأكّد أن الحركة ستشهد في قادم الأيام انسحابات كثيرة. فهل تخشى كقيادي على حزبك من الانشقاق في هذه المرحلة الدقيقة؟

ج: حركة النهضة عندها وصفة تجاه داء الانشقاقات والانسحابات وهي التالية، أوّلا الاعتراف بحق الاختلاف. وثانيا يجب أن توفير الفرصة للمقاربات المختلفة للتفاعل في ما بينها حول المشاكل و إيجاد الحلول، فلا حظر في حركة النهضة على أي رأي أو وجهة نظر. ثالثا الانتماء للحركة طوعي واختياري وبالتالي الخروج من الحركة يبقى حقا يحترم،  لكن في تقديري انه بالحوار يمكن أن نتفادى أي تصدّع محتمل ولكن أي مناضل ارتأى أن يبحث على أفاق جديدة ندعو له بالتوفيق.

س: ألا تخشى من التصدّع؟

لا أخشى ذلك وأنا مطمئن لهذه الوصفة السحرية.