يحيي النوبيون هذا العام ذكرى مرور 50 عاما على تهجيرهم من قراهم جنوب أسوان، من أجل بناء السد العالي في أسوان. التهجير الذي بدأ في عام 1963 ظل محفورا في ذاكرة النوبيين، لاسيما أن كثير من الصعوبات رافقته، علاوة على ألم الانفصال عن المحيط الحيوي والتعرض للاجتثاث من الجذور.
يحيي النوبيون هذا العام ذكرى مرور 50 عاما على تهجيرهم من قراهم جنوب أسوان، من أجل بناء السد العالي في أسوان. التهجير الذي بدأ في عام 1963 ظل محفورا في ذاكرة النوبيين، لاسيما أن كثير من الصعوبات رافقته، علاوة على ألم الانفصال عن المحيط الحيوي والتعرض للاجتثاث من الجذور.
وظل النوبيون يعانون من صعوبة العيش في منافيهم الجديدة، سواء في القرى البديلة التي جهزت لهم خصيصا، أو في في مدن القطر التي نزحوا إليها. ونادرا ما التفت الحكومات المتعاقبة إلى مطالبهم في الحفاظ على هويتهم الثقافية الخاصة. واحتاج الأمر إلى خمسين عاما، وأكثر من موجة ثورية لكي يصل أحد أبناء النوبة وهو حجاج أدول إلى لجنة الخمسين التي تعدل الدستور المصري، كصوت للنوبيين.
وقت التهجير
في وقت التهجير الذي بدأ اكتوبر 1963 حتي يونيو 1964 بلغ عدد النوبيين اثناء الحصر حوالي 98 الف نسمة منهم نحو 48 الف نوبي مقيمين في البلاد القديمة فعليا، أي حوالي النصف، والباقون يعيشون في المدن الكبري بمختلف محافظات مصر سعيا وراء الرزق ولقمة العيش وكان يطلق عليهم اسم المغتربين. وذلك كما يقول امين حفني (78 سنة) مأذون بمركز نصر النوبة، إحدى القرى البديلة التي جهزت شمال أسوان لاستقبال النوبيين.
وأضاف حفني الذي عاصر عملية التهجير إن العملية كان مخططا لها بدقة من قبل الدولة، ولكن شابها العديد من الاخطاء عند التنفيذ، لدرجة أن عددا من النوبيين لم يجدوا بيوتا مقامة لاستقبالهم عند وصولهم إلى مركز نصر النوبة أثناء التهجير، واضطرت أكثر من أسرة إلى الاقامة في منزل واحد لحين انتهاء البناء، علاوة على أن الاراضي الزراعية كانت تحتاج لمجهود كبير من أجل استصلاحها وزراعتها.
“ذكري أليمة”
النوبة القديمة التي كانت تعرف ببلاد الذهب لم تعد موجودة. الدكتور حمزة الباقر امين عام معهد البحوث والدراسات العربية التابع لمنظمة الاليكسو سابقا – واحد ابناء النوبة – وصف ذكري مرور 50 عاما علي عملية تهجير النوبيين نتيجة بدء عمليات تخزين المياه امام السد العالي بأنها “ذكرى أليمة علي كل نوبي مصر وعلي جزء من نوبي السودان”.
واعرب عن أمنيته في ان يعود النوبيون إلى بلادهم لكي يصبحوا مجددا همزة الوصل بين مصر والسودان، وذلك في المنطقة الحدودية بين مصر والسودان. آملا في أن تكون المنطقة الحدودية بين البلدين الشقيقين امنة بدلا من ان تكون هذه المنطقة خالية تماما من السكان كما هو الوضع الان.
واضاف أن الجمعيات النوبية في القاهرة والمحافظات الأخرى مازالت تحافظ على الترابط بين النوبيين وتحرص علي تنظيم الاحتفالات المختلفة من أجل لم الشمل وتوطيد العلاقات، ومن أبرزهذه الاحتفالات تكريم الطلاب المتفوقين في مراحل التعليم المختلفة وتكريم رموز الحياة الثقافية والاجتماعية والرياضية النوبية وذلك منذ تهجير النوبيين في فترة الستينيات وحتي الان.
ضد الاندثار
الهجرة النوبية اتجهت إلى الشمال في معظمها. إلى الشمال المصري، وبعضها تخطاه إلى الشمال الأوروبي. وولدت أجيال من النوبيين لم يروا في حياتهم النوبة القديمة، لكنهم وبالرغم من ذلك يشعرون بالارتباط بها. وتقول الباحثة /منه علي أغا – المدرس المساعد في الجامعة الالمانية بالقاهرة ان جميع النوبيين خاصة الشباب يشعرون بانهم اصحاب ثقافة مختلفة ويحاولون الحفاظ علي هويتهم بطريقتهم الخاصة خوفا عليها من الاندثار.
وقالت انها تشعر بحنين جارف الي البلاد النوبية القديمة، رغم أنها ولدت بالقاهرة وانعكس هذه الحنين في قيامها بعمل دراسات عليا بجامعة كولونيا عن العمارة النوبية القديمة والشكل العمراني لها وتقنيات البناء القديم وتاثيره علي الترابط الاجتماعي بين النوبيين.
وأشارت إلى أن الكثير من الشباب النوبي يعبر عن حبه وعشقه للنوبة عن طريق إجراء دراسات وأبحاث متخصصة ومختلفة عن بلاد النوبة القديمة منها علي سبيل المثال دراسات عن اساليب المعيشة والطب الشعبي في النوبة وأساليب التغذية التي كانت سائدة هناك وكيف كانت صحية للغاية.
“بيسروب”
محمد عبدالرازق احد الشباب النوبي المقيم في الاسماعيلية منذ مولده يروي انه شاهد العديد من الصور الفوتوغرافية الخاصة بالنوبة القديمة التي يعتز بها، كما أنه
سمع الكثير من القصص عنها من والديه اللذان عاصرا فترة تهجير النوبيين ثم انتقلا للعيش في الاسماعيلية بعد ذلك عقب التحاق والده بوظيفة حكومية هناك.
عبدالرازق هو ومجموعة من أصدقائه أنشأوا جمعية أهلية في الاسماعيلية تحمل اسم “بيسروب” وهي كلمة نوبية معناها “هنقدر”، وذلك بهدف التعارف والحفاظ علي العادات والتقاليد النوبية عن طريق تنظيم الندوات والمحاضرات وتدريس اللغة النوبية، التي أصبح يجهلها الكثير من الشباب النوبي حاليا.
حائط الصد الأخير
الفنان غازي سعيد هو مطرب مهتم بالغناء عن التهجير. هو من مواليد حقبة السبعينات ولم يشهد التهجير، ولكنه تاثر بالنوبة القديمة من خلال الحكايات والقصص التي سمعها من والديه عن الطبيعة الساحرة والهدوء وراحة البال وجمال النوبة القديمة. ولا ينسى مشهد الدموع التي تذرفها عينا والدته حينما كانت تحكي له ذكرياتها عن البلاد القديمة مما ساهم في تشكيل وجدانه لكي ينتقي أقوى الكلمات التي تعبر عن بلاد الدهب وتعكس الام وآمال النوبيين.
يقول غازي أن الاغاني النوبية هي “حائط الصد الاخير الذي يدافع عن الموروثات النوبية حتي لا تذوب، كما تعتبر الافراح النوبية هي الوحيدة علي مستوي مصر التي لا تغني فيها اغاني رومانسية وعاطفية فقط بل تتضمن ايضا العديد من الاغاني الوطنية التي تعكس مدي حب النوبيين لبلادهم القديمة”.
غازي سعيد يقوم بغناء أغاني التهجير منذ حوالي 15 عاما ومازالت هذه الاغاني تحظى باهتمام كبير من كل الاجيال مما يدل علي تعلقهم الشديد بها. فكبار السن الذين عاشوا هذه الفترة حينما يسمعوا هذه الاغاني لا يتمالكون دموعهم ولا يستطيعو التوقف عن البكاء، أما الشباب فيشعر أنه يرى بعينيه سيناريو التهجير منذ بدايته حتي نهايته عبر هذه الاغاني.
واوضح ان هناك اربع اغنيات شهيرة تتناول تهجير النوبيين هي اغنية “الرحلة” والتي تنقل تجربة شخصية لأحد شعراء النوبة الذي سافر في رحلة من القاهرة للسودان مرورا ببحيرة ناصر وذلك بعد 15 سنوات من التهجير، وكان يتطلع الي رؤية منازل ونخيل النوبة القديمة التي هاجر منها لكنه شعر بالاسي والحزن حينما وجدها غارقة تحت المياه وأخذ يحكي ذكرياته حينما كان يعيش في النوبة القديمة.
اما الاغنية الثانية فهي ” اشدوه” وهي اغنية بكائية يقارن فيها الشاعر بين ما قبل تجهير النوبيين في عام 1963 وما بعده وفي كل فقرة يصور جزء من النوبة القديمة ويقارنه بالنوبة الجديدة، وبالطبع كانت كفة الميزان ترجح النوبة القديمة في جميع كوبليهات هذه الاغنية الحزينة.
باقي الأغاني تطرح تساؤلات حول دور الشباب النوبي وعلاقته بالنوبة القديمة. ومن خلال هذه الأغاني وغيرها من الفعاليات تبقى القرى القديمة حاضرة في ذهن الأجيال الجديدة، على أمل أن تصبح قضية النوبة على الأجندة الوطنية بعد كتابة الدستور الجديد.