يوم دامٍ بدأه الطرابلسيون بالهتاف لليبيا مدنية خالية من السلاح، لينتهي بالمئات منهم قتلى أو نياماً على أسرة المستشفيات، ولتغسل دماؤهم التي غرق فيها ما كانوا يحملونه من رايات بيضاء ولافتات ورقية وأغصان زيتون، شوارع المدينة التي تئن تحت وطأة الأسلحة والمعتقلات السرية والكتائب غير الشرعية.

يوم دامٍ بدأه الطرابلسيون بالهتاف لليبيا مدنية خالية من السلاح، لينتهي بالمئات منهم قتلى أو نياماً على أسرة المستشفيات، ولتغسل دماؤهم التي غرق فيها ما كانوا يحملونه من رايات بيضاء ولافتات ورقية وأغصان زيتون، شوارع المدينة التي تئن تحت وطأة الأسلحة والمعتقلات السرية والكتائب غير الشرعية.

بلغ عدد حالات القتلى والجرحى في أحداث طرابلس يوم الجمعة 45 قتيلاً وأكثر من 400 جريح وفق آخر ما ذكرته المصادر الإعلامية، وهو عدد لابد أنه ارتفع مع استمرار الاشتباكات لليومين التاليين في مناطق متفرقة من المدينة، فيما وجهت وزارة الصحة نداءً للمواطنين بضرورة التوجه إلى مستشفيات طرابلس للتبرع بالدم منذ اليوم الأول للقتال.

مطالب المتظاهرين

مظاهرة طرابلس وفقاً لأهدافها المعلنة، والتي صدرت فتوى من مفتي الديار الليبية الصادق الغرياني بوجوب المشاركة فيها قبل موعدها بيوم، خرجت للمطالبة بإخلاء العاصمة من كافة التشكيلات المسلحة، وإخلاء العقارات المملوكة لأتباع النظام السابق والمقار الأمنية والمعسكرات التي تشغلها المجموعات المسلحة غير المنضوية تحت شرعية الدولة، وتسليمها إلى أجهزة الدولة الرسمية.

وكذلك للمطالبة بضرورة تفعيل الشرطة والجيش الوطني، ووضع حد لحالة الانفلات الأمني المتزايدة التي تشهدها العاصمة الليبية منذ فترة.

المجلس المحلي طرابلس الذي كان من ضمن الداعين للتظاهر، بيّن أن توجه المظاهرة إلى منطقة غرغور كان بسبب وجود عناصر تقف وراء اشتباكات الأسبوع الماضي التي وقعت في طرابلس، بين كتائب من مصراتة وأخرى من طرابلس، وسببت حالة من الهلع الشديد للسكان، اشتباكات حدثت بسبب إطلاق النار على آمر كتيبة نسور مصراتة نوري فريوان ما أدى إلى وفاته.

قصور غرغور

وأكد المجلس أن المظاهرة كانت ستشمل بقية الكتائب الموجودة في طرابلس، وأن الهدف لم يكن فقط كتائب مصراتة الموجودة في غرغور.

وتعتبر منطقة غرغور من الأحياء السكنية الراقية في طرابلس، حيث أن معظم مبانيها عبارة عن فيلات فخمة كان يقطنها رموز النظام السابق، بما فيهم سيف القذافي وعبدالله السنوسي والبغدادي المحمودي وغيرهم، لأنها تعتبر منطقة مؤمنة لقربها من معسكر باب العزيزية، مقر قيادة نظام القذافي.

وبعد الثورة سيطرت كتائب من مدينة مصراتة على تلك الفيلات واستوطنت فيها، وجعلت منها مقار عسكرية ترفض الخروج منها أو تسليمها للدولة، وهي حالة تشبه عقارات أخرى على طريق المطار استقرت فيها كتائب من مدينة الزنتان، ترفض هي الأخرى تسليمها.

شاهد عيان

عبد المعز بانون الصحفي والناشط الحقوقي الذي شارك في المظاهرة ووثق لها بالصور والتدوينات من عين المكان على صفحته في فيسبوك، روى أحداث ذلك اليوم وكيف توجه لميدان مسجد القدس ووجد المئات من سكان طرابلس من أعمار مختلفة يتجمعون هناك بعد الصلاة.

يتابع بانون “ازدادت الأعداد بالآلاف، واتجهت المظاهرة لمنطقة غرغور بدون أي سلاح، وكلكم رأيتم هذا في شاشات القنوات التي نقلت المظاهرة، وبمجرد دخول المتظاهرين للشارع الذي بعد مستوصف طريق المطار، ومنه أول زقاق على اليسار، بدأ فوراً إطلاق الرصاص من أسلحة متوسطة على المتظاهرين مباشرةً، وقُتل رجل كبير السن، وأصيب حوالي 8 أشخاص فوراً”.

بعد إطلاق الرصاص، يقول بانون “تراجع المتظاهرون السلميون، وعادوا إلى جزيرة باب العزيزية، وقٌتل من قٌتل وجُرح من جُرح، وبعد انتشار أخبار القتل خرج شباب طرابلس من كل المناطق بسلاحهم وبدأوا بالتجمع في محيط غرغور”.

يوضح بانون “كان أول الواصلين سيارات الكتيبة 17 التابعة لقوات الصاعقة، وبدأت الأرتال تتوافد من كل مناطق طرابلس، وهجموا على غرغور (لإخراج الميليشيات منها)، وسقط العشرات بين قتيل وجريح”، ويؤكد أن أكثر المشاهد إيلاماً والذي أبكى المتظاهرين كان جثة لأحدهم قُسمت نصفين، وأن إطلاق النار بدأ من “ميليشيات غرغور”.

روايات متطابقة

ما قاله بانون أكدته عدة روايات أخرى، منها ما قاله عضو مبادرة طرابلس الكبرى السيد محمد عبيد، ومراسل رويترز الذي شاهد مدفعاً مضاداً للطائرات يطلق النار من مقر إحدى الكتائب المسلحة التابعة لمدينة مصراتة والمتمركزة بمنطقة غرغور “على حشد المحتجين الذين يحملون الأعلام البيضاء وأعلام الاستقلال وهم يهتفون لا للميليشيات المسلحة” تقول رويترز.

أما رئيس اللجنة الأمنية العليا بطرابلس هاشم بشر فقد صرح في بداية تلك الأحداث أن وحدة من البحث الجنائي كانت مع المتظاهرين بلباس مدني، وقد ذكرت في تقاريرها أن بداية إطلاق النار أتى من مكان مجهول، وأن المتظاهرين كانوا سلميين ولم يحملوا أي نوع من السلاح.

الحرب بدأت

وهو عكس ما بررت به كتائب غرغور على لسان آمر إحداها “كتيبة درع الوسطى” الطاهر باش آغا، الذي قال بأن المتظاهرين كانوا مسلحين وأنهم من بدأ بإطلاق الرصاص، وأعلن في مداخلة تلفزيونية أثارت غضب الشارع بأنه والكتائب الأخرى لن يخرجوا من طرابلس إلا على جثثهم، وهدد بأن “طرابلس لم تر الحرب بعد”، وأن الحرب بدأت منذ ذلك اليوم.

ردود أفعال المجلس المحلي والمجلس العسكري ومجلس الشورى بمدينة مصراتة لم تكن مختلفة مختلفة، فبدلاً من أن تستنكر القتل الجماعي للمدنيين العزل، صبت جام غضبها على رئيس المجلس المحلي طرابلس السادات البدري في بيان أذيع على قناة مصراتة الفضائية، واتهمته بتحريض المتظاهرين على التوجه للوجهة غير الصحيحة بدلاً من توجههم للميادين والساحات المكان الطبيعي للتظاهر، وحملته بالتالي المسؤولية عن تلك الأحداث المؤسفة ورأت فيها “مؤامرة دبرت بليل”.

واستمرت حدة ردود أفعال المجالس المسؤولة في مصراتة في التصعيد حتى بلغت حد مطالبة أعضاء المؤتمر الوطني العام عن المدينة ووزراء الحكومة من أبنائها بالاستقالة، وأعلنت قبولها بخروج كافة التشكيلات العسكرية التي تنتمي للمدينة بمختلف مسمياتها بما فيها المنضوية تحت وزارتي الدفاع والداخلية، وأنها تحمل أعضاء المؤتمر و الحكومة مسؤولية “أمن و أمان سكان طرابلس”، كما تحملهم مسؤولية أمن “المصراتيين” المقيمين في طرابلس، بحسب بيان صدر يوم الأحد 16 نوفمبر.

وطالب أعضاء تلك المجالس في مداخلاتهم على مختلف القنوات الفضائية رئيس المجلس المحلي بطرابلس بتقديم اعتذار رسمي عن أحداث الجمعة، وربطوا خروجهم من العاصمة بإخراج كافة التشكيلات المسلحة غير الشرعية التابعة للمدن الأخرى بما فيها طرابلس دون استثناء.

الزج بمصراتة

عبد الباسط أبو مزيريق، محامي من مدينة مصراتة وأحد رموز الثورة، اختلف مع رأي مجالس مدينته، حين قال “كيف لمن يدعي بأنه إنسان ديمقراطي وينادي بدولة ديمقراطية، أن يرضى بتمثيل مدينته ويتحدث باسمها دون تفويض منهم من خلال عملية ديمقراطية صحيحة، مجالس الشورى والحكماء والأعيان وأغلب المجالس المحلية غير المنتخبة في مصراتة نموذجاً”.

ويضيف أبومزيريق رداً على اتهام بأن شباب مصراتة يريدون أخذ دور شباب سرت أيام القذافي “تم الزج باسم مصراتة حتى تتمكن جماعة مؤدلجة من أخذ هذا الدور، مصراتة أكبر من أن تكون مطيّة في يد أحد، وأعتقد أن تصحيح الأوضاع قد بدأ بعد أن سقطت الأقنعة”.

معايير مزدوجة

لم يخرج بيان من الحكومة يبين عدد الضحايا المدنيين العزل من عدد الضحايا المسلحين المشاركين في الاشتباكات من الطرفين، لكن قدرة بعض القنوات الفضائية على الوصول إلى بعض المستشفيات وتوثيق الحالات سهل قليلاً توضيح الصورة، فالضحايا المدنيون كانوا من مختلف الأعمار، أطفالاً ونساءً ورجالاً.

وأكدت الحكومة في بيانها لها أن المظاهرة التي خرجت عقب صلاة الجمعة في طرابلس تحصلت على ترخيص من وزارة الداخلية على أن تنظم أمام مسجد القدس، بينما صب رئيس الحكومة لومه على “بعض المثقفين والسياسين والإعلاميين المتصدرين للمشهد”، الذين قال أنهم “أجّجوا وأثاروا الناس حتى وصل الأمر إلى هذا الحد”، وطالب القنوات الفضائية بأن تضبط الخطاب الإعلامي وأن “يقولوا قولاً سديداً”.

علماً بأنه – رئيس الوزراء – كان بالأمس يطلب من الشعب الخروج في مظاهرات “والزحف” لفك حصار الموانئ النفطية التي يقفلها شباب مسلحون، واليوم يلوم من خرج في مظاهرات تطالب بخروج المجموعات المسلحة من طرابلس.

ضحايا الإعلام

أما حصيلة الضحايا من الإعلاميين فقد تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي، كما تناولها مع نقص في بعض الأسماء تقرير صدر عن منظمة “مراسلون بلا حدود” بالخصوص، حيث تأكد مقتل مصور وكالة فساطو الإخبارية صالح عياد حفيانة، وإصابة الإعلاميين أحمد الوحيشي، عصام الزبير، عبد المنعم المريمي، أحمد على بو صبع.

كما تم  احتجاز الإعلامي طارق الهوني مدير قناة ليبيا الوطنية من قسم الحوادث بمستشفى شارع الزاوية أثناء تغطيته للأحداث من قبل مسلحين تابعين للشرطة العسكرية، وتم اقتياده إلى مبنى الأمن الداخي سابقاً رفقة مصور وكالة شينخوا الصينية حمزة تركية لساعات، ليتم الإفراج عنهما لاحقاً.

وكان آخر ما كتب المدون والصحفى أحمد الوحيشي على صفحته في فيسبوك الساعة الخامسة مساء يوم الجمعة أثناء مشاركته في المظاهرة “من يتحدث عن وجود مسلحين استهدفوا غرغور فأطلق عليهم النار، لا يعني أن غرغور على صواب، إنما عليهم أن يعودو لبلدهم حقناً للدماء من أي طرف”، ثم أصيب الوحيشي بطلقة في بطنه نقل على إثرها إلى مركز طرابلس الطبي وأجريت له عملية جراحية.

ميزان الرعب

يؤكد الكاتب والإعلامي محمود شمام على ضرورة أن تكون مطالب المتظاهرين المستمرين في الاعتصام بطرابلس إخراج كافة الميليشيات من طرابلس وليس فقط كتائب مصراتة والزنتان، ويحذر من خطر بقاء كتيبة معيتيقة التي يصفها بأنها “تسير وفقاً لفتاوى المفتي وليس أوامر رئاسة الأركان”، وغرفة عمليات ثوار ليبيا، التي طلب منها رئيس مجلس طرابلس المحلي حفظ أمن المدينة وهي المتهمة سابقاً بخطف رئيس الوزراء.

يقول شمام “أليس هذا يعني أن كل المليشيات حرام إلا جماعتنا، وجماعتنا يحمون المتطرفين إذاً المتطرفين قاعدين ومش ماشيين مثلما تطالب التظاهرات السلمية”.

يرى شمام أن الخطر الحقيقي يكمن في أن “توظف مطالب المتظاهرين لتغليب كفة ميلشياوية على أخرى، ما يعني أن ميزان الرعب الذي يحكم طرابلس في طريقه للسقوط، وسقوطه يعني الحرب الأهلية”، وينتهي إلى أنه يجب “إما التخلص منها جميعاً الآن أو أن يبقى ميزان الرعب قائماً، فهو ليس أسوأ من ولاية الفقيه”.

“ربما موتهم لم يكن عبثاً” هذا ما قاله المستشار الثقافي بسفارة ألمانيا في طرابلس مارتن زيكندارت الذي وصف ذلك اليوم بأنه “يوم أسود في ليبيا”، فهل ستضيع دماء كل هؤلاء هباءً كما ضاعت دماء شهداء الثورة، أم سيعلو في النهاية صوت مصلحة الوطن ويُنصف كل ذي حق في حقه، ويكون لموت متظاهري طرابلس أثر على مستقبل البلاد.