يبدو أن القدر لم يكتف بما يتعرض له السوريين من قمع على يد نظام بشار الأسد، فمن استطاع الهرب من الجحيم، واجه ويلات أخرى تتعلق بكونه قد أصبح لاجئا، وأيضا في بلاد كمصر يخضع فيها لتقلبات الاحوال السياسية.

البعض حاول الهرب من حياة مصر القاسية، بأي طريقة، حتى لو كان عبر البحر بشكل غير شرعي، ليلجأ إلى مكان أخر ربما يكون أكثر  رحمة. لكن لم يكن الأمر بهذه السهولة.

يبدو أن القدر لم يكتف بما يتعرض له السوريين من قمع على يد نظام بشار الأسد، فمن استطاع الهرب من الجحيم، واجه ويلات أخرى تتعلق بكونه قد أصبح لاجئا، وأيضا في بلاد كمصر يخضع فيها لتقلبات الاحوال السياسية.

البعض حاول الهرب من حياة مصر القاسية، بأي طريقة، حتى لو كان عبر البحر بشكل غير شرعي، ليلجأ إلى مكان أخر ربما يكون أكثر  رحمة. لكن لم يكن الأمر بهذه السهولة.

في الحادي عشر من أكتوبر الماضي غرقت احدى المراكب امام سواحل الدخيلة غرب الإسكندرية كانت تحاول الابحار لإيطاليا وكان علي متنها 128 شخصا لقي 12 مصرعهم  – 6 سيدات و3 أطفال و3 رجال – وتم إنقاذ  116 شخص، منهم 72 فلسطينيا، 40 سوريا و4 مصريين وهم طاقم المركب.

ربما لا تعبر الارقام جيدا عن حجم المأساة التي يجد فيها اللاجيء نفسه هاربا من جديد. الحكايات أكثر تأثيرا. عدد من الناجين من الحادث الأخير تحدث معنا حول الظروف التي دفعتهم للمحاولة الهروب بهذا الشكل وتفاصيل حادث الغرق، تفاصيل مأساوية، لكنها تفضح الواقع الثقيل الذي يرزح تحته من يوضوعون بسهولة تحت مسمى “اللاجئون”.

بقايا ذكريات

“كانت معي زوجتي وطفلي وحين تحركت السفينة. فوجئت برياح شديدة عصفت بالقارب والجميع سقطوا من المركب ولحظتها لم أجد زوجتي وطفلي بين أحضاني فلقد فارقوني ..ماتوا الاثنين وتركوني وحيدا أواجه جحيم اللجوء، ولم يبق لي سوي بقايا ذكريات أسرتي”. لم تبدأ حكاية حازم شدياق هنا، وربما أيضا لم تنته،فقبل هذا المشهد وبعده كانت هناك مشاهد أخرى.

هرب حازم من الحرب في سوريا بعد أن دمر القصف بيته تماما وقتل والده ووالدته ونجا هو وزوجته وطفله من موت محقق، ولم يكن أمامه سوى الهروب من الجحيم السوري وصل إلى مصر، واستقر بالإسكندرية للعيش ..”لكن لم نشعر بالراحة فكل شئ مختلف، بداية من الطعام المختلف عن طعامنا، ورفض قبول الأطفال في المدارس، واتهامنا بالتواطؤ مع نظام محمد مرسي والإخوان، فلم يكن أمامي سوي التفكير في السفر”.

علم حازم عن طريق أحد اصدقاءه السوريين المقيمين بالاسكندرية عن سمسار يتولى التهريب لإيطاليا عن طريق البحر من خلال سواحل المحافظة ويأخذ 3 ألاف دولار مقابل الشخص الواحد و500 دولار علي الطفل، فقرر السفر، وجمع كل ما معه من مال وباع مجوهرات زوجته حتى أن حصل المبلغ كاملا.

ويكمل شدياق، أنه ذهب مسرعا إلي السمسار وأتفق معه على مبلغ 7500 دولار عليه هو وزوجته وطفله ودفع له المبلغ بالفعل قبل السفر وكان موعد السفر المحدد يوم 11 في شهر تشرين أول/ أكتوبر الماضي. فوجيء أن المركب عبارة عن قارب صيد لا يتحمل أكثر من 50 فردا علي متنه إلا أنه كان يحمل نحو 130 شخصا”… الآن أصبحنا نعرف نهاية القصة.

الموتى السابحين

“تأكدت أخيرا أن جحيم الحرب في تراب بلدي أفضل بكثير من الموت والحرمان والفقر والمعاناة في أرض غير وطني.. كان علي أن أنتظر الموت شهيدا في تراب سوريا” هكذا عبر محمد قاسم الفيروزي، السوري، المقيم في الاسكندرية عما يشعر به الآن.

يحكي الفيروزي، أنه قرر الهروب إلي إيطاليا بعد المعاناة التي واجهها في العيش في مصر “عندما جئت هنا لم أفكر في السفر لدولة أخرى، وكانت مصر بالنسبة لي محطة مؤقتة حتى تستقر الأوضاع في سوريا ثم أعود”.. لكنه بدأ التفكير في السفر لدولة إيطاليا بعد أن ساءت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في مصر.

ويضيف الفيروزي، أنه دفع مبلغ 3500 دولار ثمنا للتسفيره بشكل غير شرعي لإيطاليا وبالفعل ذهب للموعد المحدد وأستقل المركب..الغارق.

 الحظ فقط هو الذي أنقذ الفيروزي من الموت وسط عاصفة شديدة كانت تدفعه للسقوط وسط دوامات عرض البحر حسبما قال، مؤكدا إلي أنه يسبح جيدا، لثلاث ساعات متواصلة إلى أن وجد قارب الإنقاذ البحري الذي انتشله وهو ما مكنه من الحياة، وما آلمه هو تعدد القتلى وظهورهم علي وجه البحر غارقين.

محطة..إلى الفراغ

خميس عبد العال أحد الناجين من السفينة الغارقة حكايته مختلفة قليلا، حيث أنه جاء إلى مصر في أيلول/ سبتمبر الماضي بإجراءات شرعية من أجل العبور إلى إيطاليا عبر البحر من الاسكندرية التي كانت بالنسبة له مجرد محطة، خميس جاء وحيدا بعد أن قتل رجال بشار الأسد أسرته فلم يتبقّ سواه.

دفع عبد العال المبلغ إلى سمسار السفر الذي دله عليه أحد معارفه السوريين “لحظتها شعرت بأنني أخيرا سوف أعيش بعيدا عن رائحة الدم التي كانت تلاحقني في كل مكان.. ظننت أن هروبي لإيطاليا سيكون بداية جديدة لمستقبلي الذي دمرته جحيم الحرب في سوريا”، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وكانت في انتظاره سفينة الموت.

أجساد مثلجة

طارق بشير زيادي، أحد الناجين من ذات المركب أيضا مثل خميس كانت مصر بالنسبة له محطة على الطريق، ولكنه لم يأت مثل الأول وحيدا، وصل في أول سبتمبر بصحبة زوجته وأبنتهما ذات الخمسة عشر ربيعا. وأتبع تقريبا نفس الخطوات. تعرف على السمسار عبر بعض معارفه. دفع المبلغ المطلوب لتسفير الاسرة..وذهب في الميعاد المحدد للمغادرة.

“بعد خروجنا من السواحل بدأت المركب تترنح في عرض البحر عند منطقة الدخيلة غرب المحافظة وفي ثوان معدودة وجدنا الكل يصرخ وينهار ويردد الشهادتين”.

ويتابع زيادي وهو يبكي “علي الرغم من أن البعض منا كان لديه أطواق نجاة، إلا أننا لم نستخدمها بسبب ارتفاع الأمواج واضطرابها وسرعة وشدة الرياح. كل ذلك وأنا كنت ممسكا بأيدي ابنتي وزوجتي اللذان لم يتمكنا من السباحة وفجأة دفعتنا موجة قوية فرقتنا عن بعض..”.

ويصمت زيادي، لبرهة وعلامات الحزن والألم والحسرة الشديدة ترتسم على وجهه البائس الحزين المجعد من كثرة الألم، ثم يتابع قائلا: “في هذا الموقف العصيب، لم يكن أمامي سوي السباحة، وتركت زوجتي وابنتي يواجهون مصيرهما بعد أن فقدت ايديهما، محاولا الوصول إلي الشاطئ. ثم جاءت فرق الإنقاذ، وللآسف أخرجوا 13 جثمان منهم جثث أبنتي وزوجتي. كانوا أجسادا مثلجة”.

يعرف زيادي الآن أنه سيعود إلى وطنه – فور الانتهاء من إجراءات القضية والتحقيقات – حتى وان قتل هناك فـ”الموت في أحضان بلدي أفضل من الموت غريبا في ديار أخرى”، حسبما قال.  

مساحة حياة

الحادث ليس الأول – ولا يبدو أنه سيكون الأخير – اذ تذكر احصائية أمنية صادرة عن وزارة الداخلية المصرية أنه خلال الستة أشهر الأخيرة تم ضبط نحو ألفي شخص سوري وفلسطيني حاولوا الهجرة لإيطاليا بشكل غير شرعي عبر سواحل الإسكندرية.

وذكرت الإحصائية أنه في بداية شهر أيار/مايو الماضي تم إحباط محاولة تهريب 120 سوري وفلسطيني لإيطاليا من شاطئ أبي قير، وخلال الفترة من 6 حتى 14 آب/أغسطس الماضي احتجزت قوات الأمن 41 سورياً، بينهم 28 من أصل فلسطيني، و13 طفلاً، و10 سيدات، أثناء محاولتهم الهجرة غير الشرعية عبر البحر، وتم ترحيلهم إلى تركيا وماليزيا.

لكن برغم كل هذا ما زال هناك من يحاول من إيجاد مساحة حياة جديدة. “حسناء” تريد فقط مكانا يمكن أن يقبل أولادها بالمدراس ويجعلها وزوجها في وضع أفضل من أن يكون راتبه 700 جنية وإيجار الشقة التي يقيمان بها 500 جنيه، وأكدت أنها ستعمل مع زوجها لجمع المبلغ المطلوب للسفر.. حتى لو كانت النهاية الموت.