لم تُخترع آلة الزمن بعد، لكن للحروب آلة زمن من نوع خاص ومحزن، فحيث تقع الحرب وتطول، تُفتح ثغرة زمنية إلى الماضي، لتستحضر منها أمراضا وأوبئة ظن الناس أنها انقرضت وصارت تاريخًا أو فصولا من الأرشيف الطبي، فتعود الكوليرا، ويعود الطاعون، ويعود، كما أعلنت أخيرا منظمة الصحة العالمية، مرض شلل الأطفال إلى الظهور في سوريا. الحرب التي دخلت عامها الثالث، استعادت المرض الذي كانت قد سُجلت آخر حالاته هناك قبل أكثر من عشرين عاما.
لم تُخترع آلة الزمن بعد، لكن للحروب آلة زمن من نوع خاص ومحزن، فحيث تقع الحرب وتطول، تُفتح ثغرة زمنية إلى الماضي، لتستحضر منها أمراضا وأوبئة ظن الناس أنها انقرضت وصارت تاريخًا أو فصولا من الأرشيف الطبي، فتعود الكوليرا، ويعود الطاعون، ويعود، كما أعلنت أخيرا منظمة الصحة العالمية، مرض شلل الأطفال إلى الظهور في سوريا. الحرب التي دخلت عامها الثالث، استعادت المرض الذي كانت قد سُجلت آخر حالاته هناك قبل أكثر من عشرين عاما.
المفارقة أن الإعلان عن عودة المرض المخيف، تزامن و”اليوم العالمي لشلل الأطفال”، في الرابع والعشرين من تشرين أول/ أكتوبر كل عام، تخليدا لمولد العبقري الأميركي جوناس سالك الذي اخترع لقاح شلل الأطفال منتصف الخمسينيات، فأنقذ حياة – وعافية- الملايين من كل أنحاء العالم، ولم يكتف بذلك، أجاب على أسئلة الصحفيين قائلا: هل يملك أحد حق استغلال الشمس؟ كان يجيب على الأسئلة المندهشة: لماذا لم تبع براءة الإختراع لإحدى الشركات؟
كان يمكن لثروته أن تتضاعف إلى الملايين ثم المليارات، لكن العالِم الذي اضطهدوه صغيرا ليهوديته، في ذروة العداء للسامية في ثلاثينيات القرن العشرين، وحرموه من دخول جامعة كبرى كهارفارد أو ييل، فاكتفى بجامعة نيويورك، رأى في النهاية أن الحرب ضد المرض الذي لا قلب له، المتخصص في إصابة الأطفال تحت سن الخامسة، أولى من المال والثروة، الأولى أن يتمكن الجميع – في كل العالم – فورا من استخدام اللقاح، وهكذا كان.
كانت الخمسينيات الأمريكية فترة “المكارثية”، ومطاردة كل ما يبدو شيوعيا، وكان يمكن بسهولة أن يبدو تصريح “حق استغلال الشمس” تصريحا “أحمر”، لكن “سالك” – ابن المهاجرين الروس- كان بطلا أميركيا، أوقف المرض الذي قتل آنذاك من الأميركيين أكثر من أي مرض معد آخر، هاجم الولايات المتحدة في ذروة الحرب العالمية الأولى، فأصاب في العام 1916 تسعة آلاف حالة في نيويورك وحدها توفي منها الثلث، ثم عاد بضراوة أشد في الخمسينيات، ليضرب 52 ألف حالة، فيقتل أكثر من ثلاثة آلاف، ويصيب 21 ألف طفل بالشلل، بل إنه بين الحربين، أصاب فرانكلين روزفلت، الذي صار الرئيس الأميركي الأبرز في القرن العشرين. روزفلت أصيب بالمرض وهو في التاسعة والثلاثين من العمر، في إحدى الحالات النادرة لإصابة الكبار، وقضى بقية حياته – ثم رئاسته- على مقعده المدولب.
هكذا بدا “شلل الأطفال” وحشا لا رادع له، حتى جاء “سالك” الذي بدأ من أبحاث الأنفلونزا، وأنهى حياته (1995) مع أبحاث الإيدز، وبين الاثنين، استطاع أن يردع وحش الأطفال الخسيس، وينهي الإجراءات القاسية التي كانت تتم ضد الأطفال المصابين، بدءا من عزلهم في مستعمرات خاصة، وصولا إلى منع الأهالي حتى من حضور جنازاتهم.
لكن براعة جوناس سالك، ثم كرمه، سمحا للعالم أن يعلن نهاية الثمانينيات عن القضاء على 99% من المرض، وبقيت بؤر في أفغانستان وباكستان ونيجيريا وفي الهند التي انقرض المرض فيها نهاية 2012، قبل أن يعود في سوريا، حين أكدت كلا من “اليونيسيف” و”الصحة العالمية”، العثور على أطفال مصابين بالمرض في دير الزور، شرق البلاد، أطفال لم تسمح لهم الحرب بتلقي منحة “سالك”، التي طورها “ألبرت سابين” إلى لقاح فموي، مجرد قطرات تنقط في فم الطفل لتحميه.
وربما كان من أسباب الحيرة الطويلة إزاء شلل الأطفال، ذلك المظهر الذي يبدو كأنه “عيب خلقي” لدى المريض أو مشكلة في العمود الفقري، نتيجة “الشلل الرخوي” الذي يصيب الأطراف فيتغير شكلها أو اتجاهها الطبيعي، ومن بين العائلة القبيحة، عائلة فيروسات الأمعاء، يأتي فيروس “البوليو” الشرس، مسببا لشلل الأطفال.
يجمع “فيروس البوليو” بين الشرّين، فهو من جهة، سهل العدوى جدا، ينتقل عن طريق اللعاب أو المخاط، أو البراز الملوث، أو حتى الطعام والشراب الملوثين بالفيروس، ويدخل عن طريق الفم أو الأنف، ومن جهة أخرى، فهو “لا علاج له” إن تمكّن من المريض أو دمر الخلايا العصبية للنخاع الشوكي، وهكذا فإن ما يُسمى “العلاج” ينطوي على نوعين من “الأمل”، الأول هو علاج الأعراض طويل المدى –مدى الحياة- لتخفيف المعاناة، والثاني هو أن يكون المريض محظوظا فيقتصر الفيروس على التهاب السحايا “الأغشية المغلفة للنخاع الشوكي”، فيمكن ساعتها أن “يُعالج” وأن يتعافى. حقائق يزيد الخوض فيها من قيمة جوناس سالك، الذي اعتمد اختراعه على منح الجسم فيروسات المرض “غير المفعّلة” أو غير الحيّة، ليتعرف عليها الجسم فينتج أجساما مضادة عندما تغزوه الفيروسات “الحقيقية”، هذا الحل الذي يبدو بديهيا اليوم، كان ثورة طبية آنذاك.
وبعد تصريح “الصحة العالمية” عن سوريا، تعهدت الحكومة السورية “بإيصال التطعيم لكل طفل سوري”، ولا يبقى سوى الأمل أن يتم الوفاء بهذا التعهد، لعلاج التدهور الخطير الذي وصفته “واشنطن بوست” في صيغة أرقام، أفادت أن 68% فقط من أطفال سوريا لقّحوا ضد شلل الأطفال في 2012، مقابل 91 % في 2010. أرقام مخيفة في عالم ظن أنه قضى على المرض القبيح على يد جوناس سالك، الذي يستعيد مع ذكراه النقاش حول تصرفه الكريم إزاء “براءة الاختراع”، فيراه البعض نموذجا يُحتذى، ويراه آخرون تصرفًا “فرديا” رائعا لا ينبغي تكراره على يد آخرين، حتى لا يضرّ بشركات الدواء، التي تنفق الملايين على أبحاث العقاقير الطبية، وقد يسبب لها هذا النوع من “كرم” العلماء، خطر الإفلاس على المدى الطويل، ومن ثم إفلاس العلم أيضا.