أحجار بنايات حلق الوادي تمثل اقتباسات من التوراة والإنجيل والقرآن، بنوافذ مآذنها وقبابها وأجراس كنائسها وأسوار قلعتها الأثرية المعروفة باسم “الكرّاكة”. اختزلت تلك المدينة الصغيرة تاريخ الحـضارات والأديان، حيث كانت قبلة للإيطاليين والإسبان المهاجرين من صقلية والأندلس، حتى بات يلقبها البعض بصقلية الصغيرة.
قرب أكبر شارع في حلق الوادي، الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، شارع “روزفلت”، حيث توجد أفخم المقاهي والمطاعم، شيّد المركب السكني “البراطل” المطل على مشارف البحر، وهو بناية ضمت على مدى سنوات أكثر من 60 عائلة.
أحجار بنايات حلق الوادي تمثل اقتباسات من التوراة والإنجيل والقرآن، بنوافذ مآذنها وقبابها وأجراس كنائسها وأسوار قلعتها الأثرية المعروفة باسم “الكرّاكة”. اختزلت تلك المدينة الصغيرة تاريخ الحـضارات والأديان، حيث كانت قبلة للإيطاليين والإسبان المهاجرين من صقلية والأندلس، حتى بات يلقبها البعض بصقلية الصغيرة.
قرب أكبر شارع في حلق الوادي، الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، شارع “روزفلت”، حيث توجد أفخم المقاهي والمطاعم، شيّد المركب السكني “البراطل” المطل على مشارف البحر، وهو بناية ضمت على مدى سنوات أكثر من 60 عائلة.
كما يعرف ذلك المركب باسم مركّب “البارون ديرلانجي” نسبة إلى مشيّده الرسام المستشرق والموسيقي الذي عاش في تونس وتوفي سنة 1932.
بداية مأساة البراطل
في 12 كانون ثان/يناير 2010 تم تطويق حي البراطل منذ السادسة فجراً بأعداد ضخمة من أعوان الأمن مصحوبين بالكلاب، و”قامت بلدية حلق الوادي بحضور المعتمد والقوة العامة بهدم المساكن قبل أن تبتّ المحكمة في قرار الهدم الذي ما زال حينها موضع نزاع”، كما يقول أحد سكان البراطل سابقاً لـ”مراسلون”. ويوضح أن ساعة اقتحام المنازل فجراً لن تُمحى من ذاكرة سكان الحي، فقد “تم إخراجهم عنوة، ثم احتجازهم طيلة 6 ساعات في حافلات جُلبت لهذا الغرض إلى حين انتهاء أعمال الهدم.”
محاضر الشكوى التي تقدم بها متضررون تؤكد أنهم أُخرجوا من بيوتهم مذعورين من نومهم في العراء وتحت المطر ليتم هدم بيوتهم بالجرافات وتخريب كامل ممتلكاتهم وسرقة أموالهم. كما تم الاعتداء عليهم بالضرب والشتم والجرّ العنيف لإخراجهم وعائلاتهم بالقوة.
وفي الفترة الأخيرة شهدت قضية “البراطل” تطورات مهمة، حيث أصدر حاكم التحقيق بالمكتب 23 بالقطب القضائي، بطاقات إيداع بالسّجن ضد سبعة متهمين كانوا مسؤولين في فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، شملت كلاّ من لطفي براهم المدير الجهوي السابق للتجهيز، ومنذر الفريجي والي تونس، وفتحي السكري مدير ديوان وزير أملاك الدولة ومعتمد حلق الوادي علي الرّياحي ومحمّد معالي رئيس البلدية سابقاً.
وقد وجهت لهم تهمة تزوير تقارير كانت تثبت أن البيوت التي هُدمت بالجهة ليست آيلة للسقوط، إضافة إلى إجبار السكان على توقيع عقود بيع على وجه الإكراه.
يقول أحد السكان لـ”مراسلون”: “لم نعلم حينها سبب قرار الهدم، بل ولم نشغل بالنا بالتفكير أو التساؤل عمن يقف وراء قرار الهدم، كل ما فكرنا فيه هو اللّجوء إلى القضاء حتى بقيت القضية محلّ نزاع قرابة أكثر من سنتين.”
لكن فيما بعد كُشف النقاب عن خفايا القضية، حين علم السكان “بمخطط عماد الطرابلسي (شقيق ليلى بن علي زوجة الرئيس السابق) الذي أراد إقامة منتجع سياحي بتلك المنطقة المطلّة على ضفاف شاطئ حلق الوادي” حسب مصادر متطابقة.
أصر أصهار بن علي على أن تكون حلق الوادي إحدى منافذهم الإضافيّة للرّبح السّريع وإقامة المشاريع، حتى لو كان ذلك بتشريد أهالي ما زالوا إلى اليوم ملزمين بالإقامة في مناطق مجاورة، بعضهم بحي خير الدين وآخرون “بسواني الرمان” بالكرم.
المحامية مريم الدلاجي توضح لـ”مراسلون”، أن “الدولة قامت ببيع العقار إلى وكالة التهذيب والتجديد العمراني دون استشارة المالكين الأصليين للعقار، ودون إبطال عقود البيع التي تثبت ملكيتهم لنفس العقار.”
حلق الوادي تحتاج إلى فيزا لزيارتها
يرى سكان المنطقة أن عماد الطرابلسي كان يرسم مخططاً كاملاً للسيطرة على كافة المساكن المجاورة ليقيم مشروعه الحلم، المتمثل في جعل حلق الوادي “مثل دبي لا يدخل إليها أحد دون تأشيرة”. حسب ما أكدت صليحة النجار إحدى سكان حي البراطل التي تعتبر ما حصل لها “مثالاً بسيطاً عن عمليات التحايل التي قامت بها عائلة الطرابلسية في حق التونسيين.”
ففي عام 1991 اشترت صليحة مسكناً مجاوراً للبراطل، لكن مستأجريه منذ سنوات رفضوا الخروج منه. تماماً كما فعلوا مع مالك العقار السابق “مردوخ أوجان شمامة”، الذي عرض المنزل عليهم للبيع، لكنهم رفضوا شراءه، كما رفضوا دفع الإيجار. ما اضطر صاحب المسكن إلى رفع عدة قضايا ضد المستأجرين من أجل إخلائهم للمكان، فقرر بعدها بيعه، لتشتريه صليحة النجار.
صليحة سيدة في العقد الخامس من العمر، تقول لـ”مراسلون”: “حين اشتريت العقار أتممت كل الإجراءات القانونية، ثم طالبت العائلة التي كانت تسكن في العقار إما بدفع الإيجار أو إخلاء المنزل. لكن وجدت نفسي في نفس المتاهة التي اعترضت المالك الأول. ومنذ ذلك التاريخ بدأت رحلتي على امتداد أكثر من 20 سنة بين أروقة المحاكم أبحث عمن ينصفني.”
صدر في البداية حكم ابتدائي مدني بغرامة مالية على العائلة المذكورة لفائدة صليحة، إلا أن المدّعى عليهم قاموا باستئناف القضية. المحكمة الاستئنافية أنصفتها هي الأخرى. لكن العائلة لجأت مرة أخرى إلى محكمة التعقيب، التي أصدرت حكماً بإنصاف المرأة، لكن القضية تعود من جديد إلى المحكمة الابتدائية وسط استغراب صليحة ومحاميها.
لم تعرف صليحة سبب تمسك العائلة بالمنزل دون وجه حق، إلى أن اكتشفت فيما بعد مخطط عماد الطرابلسي، الذي وعد أحد أفراد العائلة بمنحه100 ألف دينار تونسي (نحو 75 ألف دولار) مقابل حصوله على المنزل.
تؤكد صليحة لـ”مراسلون” أنه بعد مدة بات يظهر عماد الطرابلسي في المنطقة بشكل مستمر وهو يقوم بتصوير المكان. وكان يقول، وكأنه يريد أن يسمعه الجميع، “إنه سيجعل حلق الوادي مثل دبي لا يدخل إليها أحد دون تأشيرة.”
لم تجد صليحة من حل سوى اللّجوء إلى وزارة العدل، لتظل أكثر من سنة وهي تبعث بالمراسلات علها تحصل على موافقة بمقابلة وزير العدل زمن النظام السابق، لكن دون جدوى. إلى أن أصدر القاضي حكماً بفسخ العقد.
تقول صليحة “بعد عشرين سنة يحكم في القضية بفسخ العقد.” تصمت قليلاً قبل مواصلة حديثها وكأنها تتصفح أوراق التاريخ الطويل وأطوار حكايتها، تتذكر بعض الحجج التي استندت عليها المحكمة حين تم الطعن في قرار البيع.
ويتواصل الحلم
بعد الثورة اتصلت صليحة بوزارة العدل وطالبت بمقابلة الوزير لتشكوه المظلمة التي عاشتها طيلة عقدين، وتشكوه القاضي الذي أصدر بحقها حكماً جائراً بفسخ العقد. إلا أن سخرية القدر تبعتها حتى إلى وزارة العدل، ففي يوم ذهابها للوزارة وجدت “ظالمها”، كما تقول، في الوزارة وقد ارتقى إلى منصب مقرب من الوزير، فما كان منها سوى أن تحمل أثقال معانتها وتغادر دون أن تقابل الوزير.
لم تيأس صليحة وواصلت التمسك بحقها، لتتصل فيما بعد بلجنة تقصي الحقائق لعلها تجد من ينفض الغبار عن تلك الحقائق التي ظلت مخفية طيلة سنوات.
تقول صليحة إنها تنتظر الآن قانون العدالة الانتقالية الذي سينصف كل من تعرض إلى مظلمة، وهو قانون ما زال محل جدل كبير داخل قبة المجلس التأسيسي، وفي ذات الوقت مازالت تواصل رحلتها الطويلة في أورقة المحاكم.
وفي 4 حزيران/يونيو 2013 صدر حكماً لصالحها، ولكن كما اعتادت ذلك، تم الاستئناف مجدداً، وستؤجل القضية إلى 27 تشرين ثان/نوفمبر القادم.