كشفت عملية قبلاط (ولاية باجة شمال غرب تونس) عن أحد أخطر الأوكار الإرهابية في تونس، حيث اكتُشفت فيه خريطة لـ 50 موقعاً كان يعتزم تفجيرها يوم 23 تشرين أول/أكتوبر، يوم الاحتفال بأوّل انتخابات ديمقراطية في تاريخ تونس.

ولكن ما لا يعرفه الجميع أن مجزرة سبقت عملية قبلاط بثلاثة أيام نُفذت بحق دورية أمنية، كانت تقوم بعملية تحري اعتيادية، انتهت بقتل وحشي. وبعدها أشيع أن الدورية ذهبت في مهمة للتنقيب على الكنوز.

كشفت عملية قبلاط (ولاية باجة شمال غرب تونس) عن أحد أخطر الأوكار الإرهابية في تونس، حيث اكتُشفت فيه خريطة لـ 50 موقعاً كان يعتزم تفجيرها يوم 23 تشرين أول/أكتوبر، يوم الاحتفال بأوّل انتخابات ديمقراطية في تاريخ تونس.

ولكن ما لا يعرفه الجميع أن مجزرة سبقت عملية قبلاط بثلاثة أيام نُفذت بحق دورية أمنية، كانت تقوم بعملية تحري اعتيادية، انتهت بقتل وحشي. وبعدها أشيع أن الدورية ذهبت في مهمة للتنقيب على الكنوز.

فوزي الشرقي، أحد أفراد الدورية الأمنية، هو الشاهد الوحيد على مجزرة قبلاط الإرهابية، وقد نجا من الموت بأعجوبة. وبعد مواجهة مثيرة يرقد اليوم في المستشفى، يحمل في ذراعه إصابة بالغة وفي قلبه حزناً عميقاً على زملاء له غادروا الحياة أمامه ولم يستطع حمايتهم.

“مراسلون” أجرت لقاءً حصرياً مع الوكيل الأوّل بالحرس الوطني فوزي الشرقي، الناجي الوحيد من الحادثة بإعجوبة.

س: لو تروي لنا آخر اللحظات التي تتذكرها قبل وفاة زميليك؟

ج: انهمر وابل من الرصاص علينا من كل حدب وصوب.. وكأن أبواب الجحيم فتحت دفعة واحدة. رأيت جسد رئيس مركز الحرس الوطني، الشهيد الملازم محمود الفرشيشي، ينتفض بقوة بفعل الرصاصات التي اخترقت جسده، وهو لا يزال واقفاً على قدميه مشدوها محدّقا في قتلته.

س: لو تقص علينا الحكاية منذ البداية، لماذا توجهتم إلى مكان المواجهة مع الارهابيين؟

ج: (يصمت لبرهة، ليلتقط أنفاسه بصعوبة، ثم يسترسل في الحديث بصوت محشرج)

قبل أيام من الواقعة وردتنا معلومة مفادها أن أحد المنازل الواقعة على مشارف منطقة التلّة من معتمدية قبلاط، والذي يسكنه أحد أبناء الجهة على وجه الكراء، تشهد حركة مريبة في أوقات محددة من الليل.

كمركز للحرس الوطني بالجهة كان يفترض بنا التحرّي حول صحة هذه المعلومة من عدمها. توجهنا يوم الحادثة أي يوم 17 تشرين أول/أكتوبر، وفي حدود الساعة الحادية العشرة صباحاً توجّهت دورية عادية دون تعزيزات للتحريات وليس لمداهمة المنزل كما أشيع.

كانت الدورية تتألف من رئيس المركز الشهيد الملازم محمود الفرشيشي والشهيد الرقيب كريم المحمدي وأنا الوكيل الأوّل فوزي مشرقي.

(يواصل بملامح يعلوها الألم) عندما وصلنا إلى المنزل المقصود على تخوم منطقة التلة الريفية كان المكان يسوده هدوء غريب وصمت مريب. في داخلي كنت أشعر بالانقباض وتملّكني شعور غير مألوف بالتوّجس والخشية من حدوث أمر غير متوقع.

حين ترجّل ثلاثتنا من السيارة الأمنية لم أكن مرتاحاً، لذلك جذبت البندقية التي كنت أحملها لجعلها في وضع استخدام. زميلي كريم انتبه إلى ما قمت به وقام بنفس الشيء فيما ترجّل رئيس المركز من الجهة المواجهة للمنزل الذي نقصده.

س: كيف كان ذلك المنزل؟

ج: هو لا يختلف كثير عن المنازل المجاورة له، منزل ريفي له باحة كبيرة تطلّ عليها غرف عديدة، وله أكثر من باب يفضي إلى الخارج. كانت السيارة تحجبني أنا وكريم نوع ما عن واجهة المنزل الأمامية.

س: هل تعتقد أن ذلك ما ساهم في نجاتك؟

(يصمت ويغمض عينيه لثواني وكأنه يحاول استجماع ذاكرته ليروي أكثر اللحظات تراجيدية عاشها في حياته)

ج: لقد أراد القدر أن أكون شاهداً على مجزرة نفّذتها أيادي إرهابية تتستّر بالدين لتمارس رغبات شاذة مهووسة برائحة الموت والدم.

(يضيف بصوت مرتجف وكأن الكلمات تأبى الخروج من حلقه لهول ما رأى) بعد ترجّلنا من السيارة هرع إلينا أحد الإرهابيين مسرعاً، وهو بلال الرياحي الذي نعرفه جيّداً باعتباره أحد شباب الجهة والمعروف بأنه يتاجر في البنزين المهرّب من القطر الجزائري. خاطبني بكل مودة “مرحباً عمّ فوزي، كيف أخدمك”؟

س: فبماذا أجبته؟

ج: لم أجبه أنا، بل سبقني في الرّد رئيس المركز الشهيد محمود الفرشيشي، حيث أكّد له أن الدورية أتت في مهمة تحرّي حول معلومات تتداول هنا وهناك حول حركة مريبة في هذا المنزل. وأعلمه أننا نريد أن نلقي نظرة داخل المنزل.

س: وكيف كانت ردة فعله؟

ج: بلال لم يتفاجأ بهذا الكلام، وأخرج من جيب سترته ورقة (وثيقة) فردها أمام أعين رئيس المركز، هي عبارة عن عقد كراء موثق بتاريخ 1 تشرين أول/أكتوبر 2013، ثم قال بلهجة جادة “أمهلني دقيقة فقط لأطلب من زوجتي ستر نفسها، وبعد ذلك تفضّل بالدخول”. ثم أسرع بالدخول إلى المنزل. ورغم أني أعرف أنه غير متزوج، لكن لحظتها لا أدري لماذا غاب هذا المعطى عن ذهني. دقيقة ونصف هي مدة غياب بلال.. دقيقة ونصف ثم فتحت علينا أبواب الجحيم… وعلى مصراعيها.

س: ما الذي جرى بالضبط؟

ج: (يستعيد تلك اللحظات الحاسمة وقد علت ملامحه مشاعر الألم والغضب)، ويقول شاهدت بأم عيني كيف سقط الملازم محمود الفرشيشي بعد أن تناثرت دماؤه لمسافة تناهز ثلاثة أمتار، في تلك اللحظة شرعت أنا وزميلي كريم في إطلاق النار صوب الارهابيين.

س: هل كانوا كثر؟

ج: إن تفوقهم العددي لم يكن في صالحنا، كانوا في حدود خمسة عشرة شخصاً، وكنا عوني أمن فقط؛ ورغم ذلك كنا نحاول الاحتماء بالسيارة مع مواصلة إطلاق الرصاص دون تردّد، وفجأة شعرت وكأن لغماً انفجر في ذراعي مرة أولى وثانية .. نظرت فرأيت ذراعي تتدلّى ولم أعد أشعر بها مطلقاً، كنت أنزف بشدة.

س: وما الذي حصل لزميلك؟

ج: عندما التفت إلى كريم بجانبي وجدته ملقى على الأرض والدماء تتدفّق بشدة من حوضه. إصابته كانت خطرة، أعجزته عن المشي أو الوقوف. نظر إليّ تلك النظرة التي لن تمحى من ذاكرتي أبداً، وقال بصعوبة وبكلمات مقتضبة “أنت أب لثلاثة أطفال، اهرب بسرعة، اتركني واهرب إنني أموت”، ثم صمت وهو يحاول إمساك بندقيته من جديد.

(يسكت لحظات ثم يضيف) عندما سمعته يتلو الشهادتين رأيت صورة ابني عمر ذي الثمانية أشهر أمامي، تحاملت على نفسي، على ألم ذراعي الذي لا يحتمل، وعدوت بكل ما أملك في الحياة من قوة.

كانت صورة ابني هي كل ما أفكّر فيه في تلك اللحظة. وفي الأثناء تفطّن الإرهابيون إلى فراري، فانطلق أحدهم خلفي بسرعة البرق، وهو يطلق نحوي طلقات متعاقبة بشكل هستيري، ويصرخ “الله أكبر، استسلم لقد انتهيت، الله أكبر”.

رغم ذلك استمريت في العدو بشكل متعرّج في خطوة تكتيكية حتى لا تكون إصابتي مباشرة وقاتلة. وكان أمامي مباشرة حاجز من شجر السرول (السرو) الذي تجاوزته ومثّل حاجزاً طبيعياً بيني وبين قاتلي.

س: وكيف تمكنت من النجاة من ملاحقيك؟

ج: خلف شجيرات السرول كان هناك منزل ريفي، اتجهت مباشرة نحوه، ثم قبل أن أصل إليه، التفت لأجد ملاحقي قد أثنى ركبته في وضعية قنص وقد صوّب فوهة البندقية نحوي، لحظتها أدركت أن الموت اقترب مني كثيراً، لثانية لم أرد النظر. ثم التفتّ، وكأنني أردت تلّقي الرصاصة مباشرة لأثبت لنفسي في لحظات الحياة الأخيرة أني غير خائف من الموت وأن أموت فعلاً ليحيا وطن. لكن ما راعني إلاّ وأنا أشاهد الإرهابي وهو يفحص بندقيته بطريقة استنتجت منها أن ذخيرته نفذت. نعم لقد نفذت 20 رصاصة هي عدد الرصاصات التي يحملها مخزن بندقية مثل التي يحملها دون أن تقتلني.

س: لقد نجوت بأعجوبة؟

ج: لم أصدّق أن الأمر انتهى دخلت باحة المنزل الذي أمامي، فوجدت عجوزاً بصحبة ابنها وابنتها، كانت ملامح الخوف تعلو وجوههم، ورغم ذلك اقتربت مني العجوز ونزعت غطاء رأسها ولفت به جرح ذراعي وضغطت بقوة لتوقف النزيف.

وفي الأثناء كنت أمسك بالهاتف لأجري آخر اتصال بغرفة العمليات قبل أن أفقد الوعي تماماً لأستيقظ بعد ذلك في المستشفى..

انتهت عملية قبلاط بمقتل تسعة إرهابيين من بينهم فيصل الزين المتورّط في اغتيال محمد البراهمي. كما تم اعتقال أربعة، أحدهم صابر الطرابلسي وهو أمير الجماعة الذي اعتقل بعد يومين على عملية قبلاط بمدينة بن قردان على الحدود مع ليبيا.

كما تمت مصادرة 14 بندقية قنص من أحدث طراز (لا تملكها حتى وزارة الداخلية التونسية) و6000 رصاصة، بالإضافة إلى طن من المتفجرات الجاهزة للاستعمال.