“صدمت بحالته الصحيّة المتدهورة لم يكن يقوى على الكلام فقد حطّموا فكّيه…لم أستطع تحمّل رؤيته على تلك الشّاكلة”. بصوت عجوز متقطّع ينمّ عن أسى شديد تقصّ ناجية الجلايلي لوضع ابنها فتحي في آخر زيارة لها بتاريخ 17 أيلول/ سبتمبر الماضي.
تواصل المرأة المسنّة متغلّبة على دموعها التّي تمنعها من الكلام بطلاقة “لو لم نقم بزيارته لقتلوه فقد تداول بعض الأعوان بسجن المرناقيّة على تعذيبه وضربه طيلة 12 ساعة متتالية دون سبب، فقط للتشفّي، لم يعد يقوى على التحمّل أكثر هذا ما قاله لنا”.
“صدمت بحالته الصحيّة المتدهورة لم يكن يقوى على الكلام فقد حطّموا فكّيه…لم أستطع تحمّل رؤيته على تلك الشّاكلة”. بصوت عجوز متقطّع ينمّ عن أسى شديد تقصّ ناجية الجلايلي لوضع ابنها فتحي في آخر زيارة لها بتاريخ 17 أيلول/ سبتمبر الماضي.
تواصل المرأة المسنّة متغلّبة على دموعها التّي تمنعها من الكلام بطلاقة “لو لم نقم بزيارته لقتلوه فقد تداول بعض الأعوان بسجن المرناقيّة على تعذيبه وضربه طيلة 12 ساعة متتالية دون سبب، فقط للتشفّي، لم يعد يقوى على التحمّل أكثر هذا ما قاله لنا”.
فتحي الجلايلي يبلغ عمره 40 عاما تم إيقافه في أفريل/ نيسان 2011 بتهمة إحراق مركز أمن وهو الآن يقبع في سجن المرناقيّة. وتقول عائلته لـ “مراسلون” إنّه يتعرّض للتّعذيب باستمرار ودون سبب ممّا خلّف له أضرارا جسديّة وترك في نفس والدته العجوز لوعة وخوفا على ابنها وحياته ربّما.
اعتقدوا…ولكن
حالة فتحي وعديدون مثله فنّدت اعتقاد الجميع بان التّعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان قد ولّى عهدها بعد ثورة 14 كانون الثاني/ جانفي باندثار نظام طالما اعتمدها، عبر أجهزة الدّولة، كسياسة ممنهجة ضد كل من سوّلت له نفسه بمعارضته أو حتّى ضد مساجين الحقّ العام. ولكن اعتقادهم كان خاطئا فالتّعذيب متواصل وباعتراف وزير حقوق الإنسان.
شكيب درويش مكلف بالإعلام بوزارة حقوق الانسان والعدالة الانتقالية قال لـ”مراسلون” إنه لا ينفي وجود التّعذيب داخل السّجون التّونسيّة ومراكز الإيقاف ولكنّه لا يستسيغ أن يشبّه الوضع اليوم بما كان عليه قبل الثّورة خاصّة أن الدّولة لا تتوانى في محاكمة كل من تثبت ممارسته للتّعذيب.
“التعذيب موجود، ووزير حقوق الإنسان اعترف أمام المجلس التأسيسي والإعلام بذلك، ولكنّه سلوك فردي وليس سياسة حكومة. والدّولة لن تدّخر جهدا في مقاومة التّعذيب وإحالة كل من يثبت تعذيبه للموقوفين على القضاء لتلقي العقوبة المناسبة” هذا ما قاله المكلّف بالإعلام في وزارة حقوق الإنسان.
التعذيب متواصل
يستشهد درويش من خلال حديثه بعدم تردد الدّولة في إيقاف من تسبب في موت الموقوف عبد الرؤوف الخماسي، الذي توفي إثر تعرضه للضّرب بطريقة وحشية بمركز شرطة بالعاصمة العام الماضي، وإحالتهم على القضاء.
الكاتب العام للجمعيّة التونسيّة لمناهضة التعذيب منذر الشارني لا يوافق تأكيد درويش على حزم الدّولة في محاكمة كل من تثبت ممارسته للتّعذيب حيث يرى من خلال تصريحات خصّ بها “مراسلون” أن الإفلات من العقاب لممارسي التّعذيب متواصل في تونس ما بعد الثّورة.
ويقول “لم تصل أي من القضايا التي رفعناها إلى طور المحاكمة، فالإفلات من العقاب بالنّسبة لمن يمارسون التّعذيب لا يزال متواصلا حيث لم نلاحظ أي حزم في التّعاطي مع قضايا التّعذيب أو حالات الوفاة المريبة داخل السّجون او مراكز الإيقاف والشّرطة إضافة إلى البطء في التحرّي والأبحاث”.
يتابع الحقوقي التونسي “نحن كمنظّمة تصلنا عديد التشكّيات من عائلات المواطنين القابعين في السجون أو مراكز الشرطة والإيقاف بوجود حالات عديدة للتعذيب بلغت حد الوفاة”.
ليست سياسة مقصودة
ويقرّ الشارني باختلاف الأمر نوعيّا على ما كان عليه في ظل حكم النّظام السّابق قائلا “النّظام السابق كان يعتمد سياسة التعذيب حيث كانت حالة سائدة واليوم رغم وجود حالات عديدة للتعذيب، بلغت حد الوفاة، لا نستطيع القول أن الحكومة الحاليّة او التي سبقتها تتّبع التعذيب كسياسة ممنهجة لكن الممارسة موجودة على مستوى الأجهزة التّنفيذية السّفلى خاصّة”.
و من وجهة نظر الحقوقي فإن دوافع التعذيب متعدّدة ولا يمكن حصرها ولكنها في أغلب الاحيان تصب في خانة الإجبار على الاعتراف أو العقاب بالنّسبة لمن اعترف بارتكابه للتّهم المنسوبة إليه.
كبّالات تترك أثرا
النّاطق الرّسمي لنقابة قوّات الامن الدّاخلي شكري حمادة، فنّد جملة وتفصيلا ممارسة الاعوان للتّعذيب معتبرا أنّه لا يجب إلقاء المسؤوليّة على عاتق أعوان الشرطة والسّجون، مشيرا إلى وجوب الاتفاق على مفهوم التّعذيب وموقع رجل الأمن منه.
ويوضح النّقابي الأمني لـ”مراسلون” أن “المعادلة الصّعبة والتحدّي الذي يواجهه أعوان المؤسّسة الأمنيّة هو القيام بدورهم على اكمل وجه في ظل نقص التجهيزات وظروف العمل الصّعبة من جهة واحترام حقوق الإنسان من ناحية اخرى. فمثلا الكبّالات تترك أثرا على معصم الموقوفين بسبب سوء جودتها. فهل يحاسب رجل الأمن أو الجهة التّي زوّدته بتلك الكبّالات”.
يتابع حمادة “إدعاء ممارسة التّعذيب في مراكز الإيقاف مردود على أصحابه ومن يملك أي دليل مادّي فليتقدّم به للقضاء وبالنّسبة للتعذيب داخل السجون نجد مثلا عون على كل 300 سجين فكيف يمكن له التّوفيق في المعادلة التي تحدّثت عنها فهو نفسه يتعرّض للتعذيب في ظل ظروف العمل تلك وحرمانه حتىّ من التّعبير عن عدم رضاه عنها”.
نرفض الانتهاكات
لم يقف الأمنيّ عند حد نفي ممارسة الاعوان للتّعذيب بل ذهب خلال حديثه ل”مراسلون” إلى حد التّعبير عن رفضه لأي انتهاك للحرمة الجسديّة لأي مواطن مذكّرا بمطالبة نقابته بدسترة المؤسّسة الامنيّة وعملها وفقا للقانون التوّنسي والمعاهدات الدّوليّة وبالتّالي احترام حقوق الإنسان المتّفق عليها دوليّا.
“التّعذيب يكون مبرمج ومخطّط له. فمثلا ما ذنب عون الامن أن لم تتوفّر الادوية داخل السّجون التوّنسيّة التي يقبع بها أضعاف طاقة استيعابها” هكذا تساءل حمادة، معبّرا على استياءه من تحميل الاعوان كل المسؤوليّة.
ويعرّف القانون التّونسي في الفصل 10 من المجلة الجنائية التعذيب على أنّه “كل فعل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أو عقليا يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول منه أو من غيره على معلومات أو على اعتراف أو معاقبته على فعل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو غيره”.
هيئة لا تمنع التّعذيب
تواصل التّعذيب في تونس جعل منظّمات حقوقيّة تطالب باتخاذ التدابير اللّازمة في اتجاه القضاء على انتهاكات حقوق الإنسان. والخطوة الاولى كانت عبر مصادقة المجلس الوطني التأسيسي مؤخّرا على إحداث “هيئة وطنية للوقاية من التعذيب”. وانضمام تونس إلى البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب. كما تم الإقرار بعدم سقوط الدعوى العمومية لجريمة التعذيب بعد مضيّ 15 عاما كما كان ينص القانون التّونسي، لكن كل هذا غير كاف برأي الحقوقيين.
وزير حقوق الإنسان سمير ديلو أكّد أن تأسيس الهيئة لن يستأصل عمليات التعذيب باعتبار أنّها هيئة وقائية تحد قدر المستطاع من هذه الانتهاكات بحكم بلوغ صلاحيّاتها حدّ الالتقاء بالمحتجزين على انفراد وبأي شخص آخر تتوفر له معلومات مهمة نافيا في الآن ذاته أن تكون هذه الهيئة استكمالا لديكور قانوني.
المنذر الشّارني لم يبدِ تفاؤلا كبير ببعث الهيئة الوطنيّة للوقاية من التّعذيب بسبب فسح القانون المؤسّس لها المجال ضمنيّا لإخفاء التّعذيب وطمس معالمه عبر إباحة منع الزّيارة الفجائية من طرف مدير مركز الإيقاف أو السّجن.
ويوضح الحقوقي لـ”مراسلون” أن “الفصل 13 من قانون الهيئة الوطنيّة لمقاومة التّعذيب يبيح لإدارة السّجن ومراكز الإيقاف أن يعلم رئيس الهيئة التي تقوم بزيارة مفاجئة بوجود حالة خاصّة (وباء، احتجاجات…) تمنع الوفد من دخول المكان وهذا يلغي عامل الفجائية ويمكن أن يكون هذا الفصل بابا لإخفاء جرائم التّعذيب ومعاينته”.
وفضلا عن اتفاق أغلب من تحدّثوا لـ”مراسلون” على تواصل التّعذيب في تونس بعد الثورة فقد أجمعوا على أن القضاء عليه والوقاية منه يتم عبر عمليّة إصلاحيّة تشمل كل المصالح المتداخلة في المجال وتكوين الأعوان وإخضاعهم لدورات في حقوق الإنسان، علّ دموع السيدة ناجية الجلايلي وغيرها من الأمهات تجفّ.