لم يكن “عم محمد” يعلم السيرة الذاتية للعالم “أديسون” الذي عمل بائع صحف في محطات القطار، ولكن من خلال مقال في إحدى الصحف الاسبوعية عرف حكاية هذا العالم.
لا وقت محدد لبداية عمل صاحب السبع وخمسين سنة، فانطلاق نشاطه اليومي مشروط بوصول الصحف والمجلات للأكشاك بمدينة قفصة. كل صباح يأخذ أعدادا من الصحف والمجلات ويتوجه لبيعها للمسافرين عبر مختلف محطات النقل مع تخصيص نسبة لزبائنه الذين يسافرون عبر القطار الرابط بين قفصة (جنوب غرب) وتونس العاصمة.
لم يكن “عم محمد” يعلم السيرة الذاتية للعالم “أديسون” الذي عمل بائع صحف في محطات القطار، ولكن من خلال مقال في إحدى الصحف الاسبوعية عرف حكاية هذا العالم.
لا وقت محدد لبداية عمل صاحب السبع وخمسين سنة، فانطلاق نشاطه اليومي مشروط بوصول الصحف والمجلات للأكشاك بمدينة قفصة. كل صباح يأخذ أعدادا من الصحف والمجلات ويتوجه لبيعها للمسافرين عبر مختلف محطات النقل مع تخصيص نسبة لزبائنه الذين يسافرون عبر القطار الرابط بين قفصة (جنوب غرب) وتونس العاصمة.
ولد محمد بن صالح بكّوري في المتلوي من ولاية قفصة سنة 1956، أي سنة حصول تونس على استقلالها. توفيت أمّه وتزوج والده وهو في مقتبل العمر.
مع فشله في الدخول الى المعاهد الثانوية، وانقطاعه عن الدراسة في مستوى السادسة ابتدائي، أصبح “محمد بن صالح” يتردد بصفة يومية على محل قريب له اختص في بيع السجائر والصحف والمجلات فقد كانت هوايته مراقبة متصفحي الجرائد قبل شرائها.
مهنة تثير الفضول
“كانوا يثيرون فضولي، إنهم كمن يبحثون عن سر خطير مدفون بين كومة الأوراق هذه”. ومع الوقت تغيرت نظرة عم محمد لكومة الأوراق التافهة هذه، “البعض ممن ليس لديه مال لشرائها يقضي وقتا طويلا يسترق ما بداخلها من أسرار بدعوى تصفحها قبل أن يقرر شرائها”.
منذ حوالي أربعين عاما دخل عم محمد هذه المهنة صدفة، “كنت على مشارف العشرين من عمري، وكنت عاطلا عاجزا عن تدبر حتى ثمن سيجارتي، وذات صباح قال لي قريبي هل ترغب في تدبّر مصروفك اليومي. لم أكن أصدق أن أصبح بائع أسرار”. كان ذلك في بداية سبعينيات القرن الماضي.
“سلّمني مجموعة من الصحف توجّهت بها الى محطة القطارات بالمتلوي لأبيعها، وكنت أمشي وأنظر يمنة ويسرة كأني سارق، حتى تجمّع حولي مجموعة من المسافرين واشتروا من عندي كل الصحف، بعضهم كان راغبا في المطالعة والبعض الآخر اشترى مني كمساعدة وتشجيع لشاب في أول تجربة عملية له، ربّما. هكذا كان أول يوم في مهنة بائع صحف”.
يقول بائع الصحف “اليوم الاول من عملي لا يزال محفورا في الذاكرة ، ولن ينسى أبدا. فلأول مرة تمكنت من شراء علبة سجائر من مالي الخاص بعد أن تمكنت من الحصول على دينارين ونصف وهو مبلغ محترم جدا في بداية السبعينات، مكّنني من شراء أول هديّة لزوجة والدي آنذاك وهو غطاء رأس، وضعته على رأسها وكانت تفاخر به بين نساء الحي قائلة: هذا اللحاف اشتراه لي ابني”.
يصل العم محمد كل صباح لمحطة سيارات الأجرة بوسط مدينة قفصة، أشعث الشعر، منهكا، وبعد جولة قصيرة يغادر في اتجاه محطة الحافلات. ورغم تعليمه المحدود إلا أنه اجتهد لمعرفة محتوى كومة الاوراق التي يوزعها.
مع الوقت بدأ محمد ينظر لبضاعته بتقدير أكثر. “يكفي حدوث جريمة كبرى أو زيارة مسؤول رفيع إلى الجهة أو حدث عالمي خطير حتى أتحول إلى أهم الشخصيات، ينتظرني الناس كل صباح بشغف وبقلق أحيانا”.
أكثر مداومة من القطار
سوّاق القطارات وعمال المحطة يعرفون جيدا محمد، فقد يحدث أن يضرب العمال ويتعطل القطار ولكن محمد لا يغيب ولو مرة واحدة.
يستقل كل ليلة القطار في حدود الواحدة والنصف صباحا، ليبقى هناك في انتظار القطار القادم من العاصمة في اتجاه ولاية قفصة، حتى حدود ولاية صفاقس ويكون النزول بمحطة “المحرس” في حدود السادسة صباحا حيث يقوم بإرجاع ما تبقّى من أعداد الصحف القديمة وأخذ الجديدة.
عمر هو مراقب التذاكر على متن القطار الرابط بين قفصة وتونس يقول عن صديقه محمد، والذي عرفه منذ سنين “لم أره في يوم يخاصم أو يقلق راحة أحد الركاب. وعندما لا يحضر، وهذا نادر جدا، نعرف أن مكروها أصابه فترانا نسأل عنه حتى يعود لسالف عمله”.
يستبشر الفلاحون بنزول المطر، إلا أن العم محمّد لا يحبّذ موسم تهاطل الامطار، فحبّات المطر عندما تتساقط على أوراق الصحف تكبّده خسائر مادّية يتحمّلها هو ولا يرضى الموزّع الرّئيسي للصحف بتحمّل الخسارة لدى استرجاعها.
يقول العم محمد “علمتني هذه المهنة التعامل مع كل المواطنين، فأنا أبيع للفقير والغني. مطالعة الصحف على مر السنوات جعلتني ملما بكل التفاصيل”.
مهنة فقدت بريقها
ويضيف بكل أسف أن هذه المهنة فقدت بريقها، فالناس يعرفون الاخبار في التلفزيون، مباشرة أثناء حدوثها وكذلك في الانترنيت، ” لم أعد أرى تلك اللهفة في عيون الزبائن قبل اقتناء الصحيفة، حتى أن البعض يشتري الصحيفة ويطويها مباشرة لقراءتها في وقت لاحق وهو أمر يؤلمني”.
وبرأي عم محمد فإن الناس أصبحوا يقتنون الصحيفة لقراءة إعلان، وفي عديد الأحيان فإن الاخبار المتداولة لا تعبر صراحة عن رأي المواطن ومشاغله. لأن الصحيفة لم تعد مصدر الاخبار والأسرار مثلما كانت في القرن الماضي.
ما يوفّره من عمله بالكاد يكفيه لقمة يومه، لذلك لم يتزوّج محمد. ومع ذلك لا يزال رغم الشيخوخة البادية على ملامحه يطمح في ان يجد يوما امرأة تعيش معه. ويقول محمد مازحا “مشاكلي المادية لن تحل إلا بفرصة العمر ولكن العمر مضى ولم يبقى منه إلا القليل”.
يتنهّد ويقول بتأثر “كان أديسون يبيع الصحف ليكمل دراسته ولكنني كنت أبيع الصحف لأدخّن وأتابع حركات بنت الجيران، حتى وصل بي الأمر إلى هذا الحال، ولكن لست نادما فقد علّمتني الحياة أن “ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”.
“هل ستكتب عنّي حقا مقالا، وفي أي صحيفة سينشر”، هي الكلمات الاخيرة التي حدّثنا بها عم محمد قبل أن نودّعه وهو مثقل بالصحف والمجلات، في انتظار القارئ الذي قلّ وجوده أمام توفّر المعلومة في وسائل الاعلام الرقمية. ولكن لذّة القراءة مباشرة من الصحيفة، لذة لا يفهم سرّها إلا العم محمد.