لا يزال عمران بن خليفة الدكتور الباحث في مجال الآثار عاكفاً على إنجاز بحث علمي مفصل حول مستوطنة “بيسيدا” الأثرية، والتي تم اكتشافها عام 2001 في منطقة أبي كماش التابعة لمدينة زوارة في أقصى غرب ليبيا، على بعد حوالي 20 كم من الحدود الليبية التونسية.

كون بن خليفة أحد أبناء المنطقة التي تزخر بالمعالم الأثرية، فهو يحلم منذ الصغر بتسجيل اكتشافات مهمة في هذا المجال، ما دفعه لدراسة الآثار وخوض محاولات عديدة للتنسيق مع مصلحة الآثار أيام القذافي، بهدف الحصول على دعم لأبحاثه دون جدوى.

لا يزال عمران بن خليفة الدكتور الباحث في مجال الآثار عاكفاً على إنجاز بحث علمي مفصل حول مستوطنة “بيسيدا” الأثرية، والتي تم اكتشافها عام 2001 في منطقة أبي كماش التابعة لمدينة زوارة في أقصى غرب ليبيا، على بعد حوالي 20 كم من الحدود الليبية التونسية.

كون بن خليفة أحد أبناء المنطقة التي تزخر بالمعالم الأثرية، فهو يحلم منذ الصغر بتسجيل اكتشافات مهمة في هذا المجال، ما دفعه لدراسة الآثار وخوض محاولات عديدة للتنسيق مع مصلحة الآثار أيام القذافي، بهدف الحصول على دعم لأبحاثه دون جدوى.

بعد الثورة يستبشر بن خليفة خيراً، فقد يتمكن أخيراً من اكتشاف ما يشبع فضوله حول الحقائق التاريخية التي تشغله وخاصة بما يتعلق بهويته الأمازيغية، ولهذا بدأ العمل في “بيسيدا”.

مدينة الإله بيسيدون

يقول د.عمران إن “موقع بوكماش في الواقع هو مدينة بيسيدا التي ذكرت في العديد من المصادر التاريخية الإغريقية والرومانية، فالأولى تعرض بوضوح ارتباط هذه البقعة الجغرافية بـالأسطورة الإغريقية حول مولد إله البحر (بيسيدون)، والتي تؤكد جميعها أصله الليبي وولادته على جزيرة صغيرة قرب الساحل الغربي الليبي، أما المراجع الرومانية وتحديداً كتب المؤرخ بطليموس، فتؤكد أن بيسيدا ميناء تجاري هام، يقع داخل إطار خليج محمي طبيعياً من قبل شبه جزيرة”.

ويستنتج بن خليفة “بتتبع الكثير من المخطوطات الرومانية نستطيع وبوضوح استنتاج أن موقع بو كماش الأثري هو في الواقع مستوطنة بيسيدا، فوضعها الطبيعي والجغرافي قد مكنها بان تكون مركزاً تجارياً وثقافياً وإدارياً هاماً بالجزء الغربي لإقليم تريبوليتانيا (طرابلس الغرب)، بل ومرفأ رئيسياً هاماً و آمناً للأسطول العسكري الروماني إبان العصر الروماني”.

اكتشاف بالصدفة

يتفق وائل فطيس الباحث التاريخي مع بن خليفة فيما ذهب إليه، ويؤكد أن هذه المستوطنة “ذكرها بطليموس الإسكندري ووصف خطوط الطول والعرض المارة بها، وحددها كميناء تجاري”، وذكرت أيضا من قبل عدد كبير من الجغرافيين والمؤرخين، وقد سميت حديثاً المنطقة باسم ابو كماش، وهو اسم نوع من أنواع الكوليرا انتشر هناك لفترة.

يقول رياض الهاميسي الباحث اقتصادي والمكلف بحماية الموقع “تم هذا الاكتشاف بالصدفة أثناء عمل إحدى الشركات على مشروع بالمنطقة، وقد أسفرت الحفريات عن اكتشاف مجموعة من المدافن العائلية بما تحويه من مقتنيات أثرية متنوعة، رأت معها مصلحة الآثار ضرورة إجراء حفريات مكمّلة للأولى”.

وهذا ما تم بالفعل حيث  أجريت حفريات في  عامي 2003 و 2004، وقد زارت المنطقة بعثات أوروبية لها باع طويل في هذا المجال، “إلا أن سياسة النظام السابق لتظليل التاريخ وتزويره لم تفتح المجال للتعريف والاهتمام بمثل هذه الكنوز بالشكل المطلوب، وخاصة أنها دليل واضح على الحضارة الأمازيغية التي طالما عمل على محوها” يقول الهاميسي.

فيما يؤكد وائل بأنه “إبان فترة الاحتلال الإيطالي تم العثور على العديد من الأثريات في المنطقة أهمها تمثال الأسد وعدد من الجرار الفخارية هي موجودة الآن في متحف طرابلس”.

يقول د. عمران لمراسلون إن “إقليم طرابلس الذي تقع به مستوطنة بيسيدا كان ضمن إطار مستعمرات الدولة الرومانية إبان فترة الحكم الجمهوري، وقبل وقت قصير من الغزو الروماني كان الإقليم ضمن إطار الدولة البونيقية، التي انهارت مع دمار عاصمتها قرطاج في الحرب البونيقية الثالثة (149- 146 ق.م)، وقد ازدهرت بيسيدا إبان القرن الثالث (فترة حكم الامبراطور الأمازيغي سبتيموس سفيروس)“.

حماها الشباب

أما بشأن المخاوف الأمنية حيال بيسيدا قال الهاميسي “على الرغم من الظروف العصيبة التى تمر بها البلاد إلا أننا كنا حريصين على حماية الموقع أثناء حرب التحرير، وبعد تحرير المدينة مباشرة وجدت الموقع خالي من أي حماية، فتوجهت للمجلس المحلي بمدينة زوارة والمجلس العسكري”.

ويتابع الهاميسي “تم تكليفي بتشكيل لجنة مختصة للتوثيق والحماية، وبالتعاون مع شباب المدينة ودون أي مقابل، بدأنا بتوثيق كل ما عثرنا عليه، ووثقنا الحالة التي وجدنا عليها المستوطنة، ولكن للأسف أثناء التوثيق وجدنا أن كل عمليات التنقيب التي أجريت كانت بطرق غير منهجية، وخاصة على عدد من المقابر المعمارية بالمقبرة المركزية”.

سكانها ليبيون

يشعر رياض بالأسى بسبب الخراب الذي لحق بعض القبور بالمستوطنة، فهو الذي طالما كان ينظر للموقع بأنه جزء من تاريخه، الذي يعبر عن أصوله وجذوره الأمازيغية الليبية، ويعتبره مورداً اقتصادياً مهماً للمنطقة وسكانها.

تميزت بيسيدا عموماً بالغالبية السكانية ذات الأصل الليبيي بحسب بن خليفة، وسرت فيها القوانين والأعراف المحلية إبان فترة الحكم الروماني بشمال أفريقيا، وذلك بخلاف المستعمرات الرومانية كصبراتة أو لبدة مثلاً، اللتان تميزتا بالتنوع السكاني و الثقافي (الليبي و الروماني)، وكانتا تسيران بالقانون الروماني فقط.

كما أن “قربها من صبراتة جعلها تتمتع بأهمية التبادل التجاري، وهذا ماجعل السكان على مستوى بالغ من الثراء، ما يظهر جلياً من المدافن المزخرفة والمبنية بصورة متقنة” يقول وائل.

آمال الشباب

نهى كامل أصيلة زوارة طالبة تدرس الهندسة المعمارية وقد اختارت رفقة عدد من زملائها موضوع مستوطنة بيسيدا لمشروع تخرجها، تقول نهى لمراسلون “هذه المستوطنة  تعد واحدة من أروع وأجمل ما تمتلكه ليبيا من تراث، ونحن كشباب المدينة نسعى جاهدين لإعادة توظيفها بالشكل الذى يسمح بالاستفادة منها بصورة تتناسب مع قيمتها العملاقة”.

وأثناء عمل نهى وزملائها على هذا الموقع تقول “وجدنا فيها من روعة التصاميم والفن المعماري الخاص الذي لم يوجد في أماكن أخرى، ونأمل أن تكون نتائج عملنا خطوة من خطوات البحث والتعريف بهذه المستوطنة، لكي تكون هناك حلقات من التواصل، وإلا حدث انفصال شديد بين ما نمتلكه من تاريخ، وبين ما آلت إليه أحوالنا فى الفترة الحالية، وخاصة ما يتعلق بالحضارة الأمازيغية”.

مدينة القبور

إذا أردت أن تزور مستوطنة بيسيدا عليك أن تقرأ عنها قبل أن تصلها، حتى تستوعب ما تزوره من معالم، وأبرز ما يظهر للعيان هي المقابر التي تميزت بشكل عام، يقول رياض “المقابر مختلفة ومتعددة الأنواع والأشكال، وقد يرجع السبب في ذلك إلى حالة الميت الاقتصادية والاجتماعية، وإلى المعتقدات الدينية والجنائزية التي كانت سائدة حسب كل فترة من العصور التاريخية التي مرت بها البلاد”.

ويضح قائلاً “لقد عُثر على العديد من التحف والآثار المهمة داخل تلك القبور، من أهمها دبابيس عظمية للزينة، ومصباح تاج كورنثيتي مزدوج، وقطع من أرضية فسيفساء، ومرآة برونزية، وجرار رومانية، وهذا دليل على وجود معتقدات دينية خاصة كما يبدو”.

ظلت بيسيدا حاملة لاسمها وطابعها الخاص، وأكبر دليل على ذلك ما اكتشف بالمقابر مؤخراً حسب بن خليفة الذي يؤكد بأن “فن العمارة بها ليس رومانياً مطلقا، بل هي مميزة بأسلوب لم يوجد إلا في شمال أفريقيا فقط، مما يثبت أن سكان بيسيدا هم السكان الأصليون، كما أن طريقة بناء القبور مزودة بأبواب تفتح وتغلق، يعد دليلاً على أنها تستعمل لأكثر من جيل كقبور عائلية متسلسلة، ما يعكس الترابط الاجتماعي”.

كل الحقائق و الأفتراضات المعروضة حتى الآن، تظهر وبوضوح أهمية ودور هذه المدينة الليبية ذات الطابع البونيقي الأمازيغي، والتي يأمل أهالي مدينة زوارة أن تنطلق البحوث العلمية و المنهجية التي من المقرر تنفيذها خلال الأعوام القادمة حولها، وأن يكون هذا الاكتشاف مصدر اهتمام للدولة الجديدة وتعطيه حقه، ويجدون عملاً جاداً للإجابة على كل التساؤلات حول هذه المستوطنة.