لم تتخيل أسرة عبد النبي الصادق أن الإفراج عن جثة ابنها مرتبط بتوقيعها على شهادة تفيد بأنه قضى انتحارا.

عبد النبي صادق، 34 عاماً، طبيب صيدلاني من قرية انشاص الرمل شمالي القاهرة، قضى نحبه بطلق ناري في الرأس في 14 آب/أغسطس الجاري، يوم فض اعتصام ميداني النهضة ورابعة العدوية على يد قوات الجيش المصري.

لم تتخيل أسرة عبد النبي الصادق أن الإفراج عن جثة ابنها مرتبط بتوقيعها على شهادة تفيد بأنه قضى انتحارا.

عبد النبي صادق، 34 عاماً، طبيب صيدلاني من قرية انشاص الرمل شمالي القاهرة، قضى نحبه بطلق ناري في الرأس في 14 آب/أغسطس الجاري، يوم فض اعتصام ميداني النهضة ورابعة العدوية على يد قوات الجيش المصري.

بحسب شهادات مقربين من صادق، فإن الشاب الذي واظب على التظاهر في ميدان رابعة منذ قرار الجيش عزل الرئيس محمد مرسي، بقي بعد مقتله لمدة يومين في المستشفى ويومٍ في المشرحة، قبل أن الحصول على قرار يسمح باستلام جثته. كما افاد صديقه المقرب أنه تعرض لضغوط من ضباط كانوا متواجدين المستشفى، طلبوا منه التوقيع على أن صادق مات منتحرا.

جثث على الأرصفة

عبد الرحمن الرزق، وهو مهندس من قرية أنشاص الرمل شمالي القاهرة، وأحد المعتصمين بميدان رابعة العدوية منذ اليوم الأول، شاهد عيان على مصرع صديقه علي عبدالنبي صادق.

يقول الرزق أن صادق أصيب بطلق ناري بالرأس، أثناء محاولته إنقاذ أحد الشبان المصابين.

“لم أفكر قط حيث أسرعت إليه وحملته، كان دمه يروى جسدى متمنيًا أن لا يفارقني، كنت أعرف انه مات ولكننى ذهبت به للمستشفى الميدانى الذي كان قد تم تدميره ولا تسمح حالته بقبول مصابين جدد، فوضع الاطباء الجثث الوافدة على الأرصفة وداخل مسجد رابعة الذي تم حرقه”.

بالنسبة لهذا الشاب فإن موت صديقه بهذه الطريقة كان “مصيبة”، و”لكن “المصيبة الأكبر كانت في كيفية خروجنا بجثمانه سالما وبما يحفظ حقه من القاتل”، يضيف.

لن نوقّع على إقرار الانتحار

يروى المهندس عبد الرحمن الرزق أنه جثمان صديقه انتقل إلى مستشفى الحسين الجامعي، حيث فوجئ الرزق بمشهد “غير آدمي” على حد وصفه:

“جثامين الضحايا كانت ملقاة على الأرض، لا يوجد مكان لها في ثلاجات حفظ الموتى في ظل حرارة شديدة وروائح كريهة وازدحام سببه توافد أسر الشهداء الذين كانوا يصرخون ويبكون من أجل الحصول على تقرير طبي يصف حالة الضحايا”.

جثة صادق مكثت في مستشفى الحسين الجامعي لمدة يومين، يقول الرزق، “كانوا يحاولون الضغط علينا كي نقبل عرض الخروج بالجثمان في مقابل التوقيع على اقرار انتحار”.

ويزيد “كنا نفقد الأعصاب مع كل دقيقة تمر، وكانت روائح الجثث قد بدأت بالظهور، وكان يأتي بين الحين والآخر ضابط أمن يطلب من الأطباء أن يجبروا أسر الشهداء على التوقيع على اقرار الانتحار في مقابل الخروج بالجثمان”.

هناك فرق شاسع

يؤكد المهندس الشاب أن كلمة “منتحر” كانت تثير غضبا خاصّا لدى الأهالي الذين كانوا يصرخون “لن نوقع على أن ابننا مات كافرا”، أو “أبناؤنا ليسوا منتحرين بل ماتوا شهداء”.

ومن المعلوم أن هناك فرق شاسع بين جزاء “الشهيد” و”المنتحر” طبقاً للعقيدة الاسلامية. “منزلة الشهيد تلي منزلة الأنبياء، ويصل ثوابه إلى أن يشفع لسبعين شخصا من أسرته وأصدقائه الذين وجب عليهم دخول النار. وعلى النقيض من ذلك، ليس للمنتحر عقابٌ سوى الحرق في جهنم”، يوضح الرزق.

ويتابع “وسط بطء الاجراءات، لم نخرج من هذا الوضع إلا بعد يومين، بعد أن كاد بعض الأهالي أن يحرقوا المستشفى، للخروج بتقارير تؤكد السبب الحقيقي وراء ومقتل أبنائهم”.

لكنه يشير إلى أن هناك بعض الأهالي سارعوا إلى القبول بالتوقيع على إقرار الانتحار تجنبا لتشريح الجثة أو للمعاملات البيروقراطية التي تأخذ وقتا طويلا.  

تضامن الأطباء والإدارة

يؤكد الشاب الراوي للحادثة أن أطباء داخل مستشفى الحسين كانوا متضامين مع ذوي الضحايا. وذكر أن مشاحنات وقعت بين طبيب وضابط الأمن حيث قال للضابط: “من أنت وكيف تتدخل فيما لا يخصك ..لسنا ملزمين أن نأخد منكم أوامر”، مهددا أن يكتب استقالته حالا في حال لم يخرج الضابط من الغرفة.

ويضيف الرزق أن كلمات هذا الطبيب وجدت تفاعلا لدى عدد آخر من الاطباء بمن فيهم مدير المستشفى، وقالوا للضابط “لا يوجد هنا طبيب بائع لضميره وشرفه المهني”، وقاموا بطرد الضابط مرددين هتافات ضده “اطلع بره اطلع بره مش هنبيع ضميرنا”.

مخاوف من سرقة الجثة

يؤكد الرزق أنه كان الرفيق لصادق في الحياة والممات، وأنه بقي إلى يحتصن جسده الميت يومين كاملين إلى أن وصل الجثمان في اليوم الثالث إلى مشرحة زينهم.

“كنت اخشى من خطف الجثة أو حرقها، فهناك عشرات الجثث المفقودة التى ذهبت لمكان لا يعرفه أحد”.

ويضيف المهندس عبد الرحمن الرزق أنه فوجئ بوضع “أكثر إهداراً للإنسانية” أمام المشرحة، حيث يستلقي طابور من الجثامين على الشارع العام، يدخلها ذووها طبقا للدور.

“ساعات طويلة انتظرنا فيها دورنا في تشريح جثمان صديقي، وكان هناك استغاثات من الاهالي لأنهاء بعض الاجراءات الروتينية دون جدوى، وكان لزاما علينا أن يتم عرض كل جثة ومعاينتها من النيابة العامة، التي كانت تمر على ثماني مستشفيات أخرى، وهو ما دفع عشرات الأهالي لمحاولة الهروب بجثامين أبنائهم وقالوا: نريد أن ندفن أبنائنا بمعرفتنا ولا نريد من الحكومة تصريح”.

وهنا أكد المهندس أنه حصل على تقرير طبي يؤكد أن سبب الوفاة “طلق ناري في الرأس أثناء فض اعتصام ميدان رابعة العدوية”.

نريد أن نأخذه معنا

طبيب رفض ذكر اسمه، مسؤول عن أحد أقسام مستشفى الحسين الجامعي، أكد تعرضه لضغوط من قبل ضباط، لدفع الأهالي كي يكتبوا إقرارا بالانتحار قبل تسلم جثامين ذويهم.

وأشار الطبيب إلى أن جميع الحالات التي خرجت من المستشفى أثناء فترة دوامه لم توقع اقرارات انتحار بناءً على تعليمات شخصية منه. “لقد رفضت بشدة وتضامن معي جميع الاطباء ضد كتابة تقارير منافية للحقيقة”.

وذكر نفس الطبيب وهو استاذ جامعي، أن الشرطة حضرت ومعها “شاب ثوري” مصاب بطلق ناري لكن حالته كانت مستقرة، و”عندما طلبنا إبقاءه لأيام تحت العناية والمتابعة رفضت الشرطة وقال الضابط: نحن الذين حضرنا به ونريد أن ننصرف وهو معنا أيضاً”، وأخذوه رافضين استكمال علاجه.

وأشار الطبيب إلى وقوع حالات مماثلة في مستشفى السيد جلال الجامعى، وكان هناك تعليمات واضحة من مديرها بعدم استقبال شهداء ميداني رابعة والنهضة، و”بعد أن تمكن الاهالي من إدخال ذويهم المتوفيين والمصابين، طلب مدير المستشفى من الاطباء عدم كتابة تقرير يشرح اسباب وفاتهم”.

الدكتور أحمد بنداري، وهو من مستشفى المطرية الذي تلقى عشرات من جثث قتلى أحداث رابعة العدوية وميدان النهضة، قال إن العديد من الأهالي وقعوا على اقرار انتحار في مستشفاه حتى يتسلموا جثامين ذويهم بدون تشريح.

وأضاف الطبيب “تم تيسير الأمر لهم من قبل الاجهزة الامنية وبعض القيادات الطبية، حيث كانت هناك رغبة قوية لتعميم هذه الظاهرة على جميع الجثث، بالعديد من المستشفيات التي كانت تستقبل الشهداء”.

حُرموا من شرف اللقب

في قرية انشاص الرمل استقبل عائلة صادق جثمانه بعد ثلاثة ايام من الانتظار، وكان من بينهم زوجته وابنه صفي ذو أربع سنوات وابنته لينا ذات السنتين، وسط غضب من الأهالي المؤيدين والمعارضين للسيسي ولمرسي الرئيس المعزول على حد سواء، جراء تأخر استلام الجثمان.

وقد حضر جنازته جميع أهالي القرية حزنًا علي وفاة رجل قاولوا عنه أنه كان محفظًا للقرآن، كما حضر المئات من زملائه العاملين بشركة ميباكو للأدوية، وجميعهم كان ينادي للـ “الشهيد”.

لكن صديقه الرزق، يقول إن عشرات من ذوي ضحايا ميدان رابعة، ممن اختصروا المدة ووقعوا على إقرار الإنتحار، حرموا قتلاهم من شرف هذا اللقب.