وجهها الطفولي المكسوّ بتجاعيد أعوام الشقاء، لا تفارقه بسمة الرّضا. غبار الطّريق، وأشعّة الشمس تركا آثارهما على بشرتها السمراء الجافة، ونالت العربة الّتي تحمل علب البلاستيك من جسدها النّحيل حتّى كاد ينحني.

وجهها الطفولي المكسوّ بتجاعيد أعوام الشقاء، لا تفارقه بسمة الرّضا. غبار الطّريق، وأشعّة الشمس تركا آثارهما على بشرتها السمراء الجافة، ونالت العربة الّتي تحمل علب البلاستيك من جسدها النّحيل حتّى كاد ينحني.

علجيّة، الّتي يعرفها سكّان “البورجي” بالقيروان وسط تونس، تنشط في جمع القوارير البلاستيكيّة لتبيعها وتنتفع بثمنها. تُكلّل جولاتها اليوميّة بدنانير آخر الشهر. لا تفارق البسمة تعبير وجهها. وترافقها أحزانها في دفعها بين القمامة المزروعة في شوارع القيروان، وعندما يحاصر التّعب جسدها تلتجأ إلى الذكريات: “كان ابني عادل لا يقبل أن أخرج لهذا العمل، لكنه توفّي كما توفّي والده”.

[ibimage==8860==Small_Image==none==self==null]

عجليّة

جمع القوارير بالنّسبة لعلجيّة، ليس هواية عجوز مدلّلة، تشغل فراغها بعد وفاة زوجها، وإنّما هو السّعي لكي “لا يمنّ عليّ أحد ولا يقطع عنّا الماء أو الكهرباء”.  فجراية تقاعد زوجها الّتي ورثتها، 200 دينار (حوالي 120 دولار أمريكي)، تهبها لأحفادها.

دنانير مقابل أطنان البلاستيك

داخل مستودعها، تقف علجيّة وسط ما جمعته من قوارير وعلب وقطع بلاستيك، طيلة أيّام، تنتظر مجيء الوسيط لأخذه، فيضع أكياس القوارير المحشورة على الميزان، وبعد حسابات لا تقتفي تفاصيلها، يسلمها بضعة دنانير تأخذها على استحياء وهي متيقنة بأنّه “سرقها”، ولكنها تحتسب وتعاود جمع كمّيات أخرى من القوارير لتسلّمها له كرّة أكرى.

ينشط في هذه السوق أكثر من 8000 شخص، يُطلق عليهم اسم “البرباشة”، يجوبون الشوارع والأزقة وهم يبحثون داخل حاويات الفضلات المنزلية عن قارورة بلاستيكية أو علبة مشروبات أو ورق مقوّى (كرتون) أو تجهيزات منزلية تحتوي على معادن قابلة لإعادة التدوير.

[ibimage==8866==Small_Image==none==self==null]

نفايات بلاستيكية على الميزان

وفضلا عن اولئك الشبّان والكهول والنسوة والأطفال جامعي النّفايات البلاستيكيّة، يوجد عدد غير حصري من نقاط التّجميع والوسطاء، إلى جانب نقاط التّجميع المرخّص لها والّتي تتعامل معها الوكالة التّونسيّة للتصرّف في النّفايات.

تشرف هذه الوكالة الّتي تتبع وزارة البيئة، على جمع النّفايات الصلبة من أجل إعادة تدويرها، ضمن خطّة وطنيّة ذات أهداف بيئية واقتصادية، فضلا عن دورها الاجتماعي.

وترخّص الوكالة لنقاط تجميع البلاستيك مقابل شراء ما يتمّ جمعه من فواضل، ثمّ تتسلّمه بدورها بمقابل. على أنّ السّعر يتفاوت حسب الجهة وفق خطّ أفقي تسلسلي، يبدأ بالناشطين في جمع البلاستيك وينتهي إلى المصنّعين.

أطفال المدارس ايضا

يدير الشاب محمّد خليل نقطة تجميع بلاستيك مرخّص لها من قبل وكالة التّصرف في النفايات. يقول لـ”مراسلون”: “تشغل هذه النقطة خمسة عمّال، ومهمّتها شراء البلاستيك، بمختلف أنواعه، وأبرزها القوارير، من الجامعين”. ويتعامل مركزه مع أكثر من خمسين مزوّدا من الكهول والشبّان وأطفال المدارس الّذين يستغلّون العطلة الصّيفيّة لجني بعض النّقود.

“هناك كراس مجدول لأصناف النّفايات البلاستيكيّة، أجودها قوارير المياه المعدنيّة”، يوضح خليل الذي حصل على ترخيص لمزاولة المهنة، مضيفا أن كميّة البلاستيك التي يجمعها تتراوح في معدّلها السّنوي بين 4 و6 طن شهريّا، وتبلغ ذروتها 10 أطنان في بعض المواسم. وذلك إلى جانب 10 نقاط تجميع أخرى ذات ترخيص، وأعداد أخرى بلا ترخيص. وبالتالي تتضاعف أطنان القمامة الّتي يجمعها الفقراء.

وتقدر وزارة البيئة والتنمية المستديمة في تونس كمية النفايات المنزلية المنتجة سنوياً في البلاد بنحو 2.5 مليون طن، يتم التصرف بأكثر من ثلثها بالمعالجة والتدوير، وذلك وفق احصائيّات قبل 14 كانون ثان/ جانفي 2011، وهي غير محدّثة حاليّا.

وسطاء يتلاعبون

قطاع جمع البلاستيك، وهو عمل بيئي بالأساس، من القطاعات الاقتصادية الهشّة. ومع ذلك يوفّر موارد ماليّة لمئات العائلات في القيروان التي يقطنها ما يزيد عن نصف مليون نسمة ثلثهم فقط يعيش في المدينة.

وتبدو هذه المهنة ذات اهمية خصوصا في الأحياء الشعبيّة مثل “البورجي” و”المنشية” و”زيتون الحمّامي” و”ملاجئ سحنون” وغيرها من الأحياء المهمّشة.

ويقول محمد خليل “نشتري الكيلوغرام بـ 300 مليم ونبيعه للوكالة بـ 500 مليم”. هذا هو السعر المتداول والمعلن. وتمكّن هذه التسعيرة التلاميذ الناشطين من جني أجرة تتراوح بين 10 دنانير في اليوم، في صورة عمل شاق لأكثر من 10 ساعات يوميا، ومسح 20 كلم مربع وسط المدينة”.

وتشير الاحصائيات الرسمية إلى أن نسبة الأطفال المنتسربين من المدرسة في ولاية القيروان بين عمر 13 و19 تصل إلى 48 بالمئة، وهو ما يفسر كثرة عدد الاطفال العاملين في هذه المهنة.

أما كبار السن من الرّجال والنساء، فلا يتجاوز دخلهم بحسب خليل، الـ 2 دينار يوميا، خصوصا إذا تدخّل الوسطاء، فيشترون بأسعار أقل من السّعر الّذي تعرضه نقاط التجميع المرخّصة.

“وإذا صادف إعلان سعر أعلى، فيكون هناك تلاعب في الميزان” يتابع خليل، “لأنّ الوسطاء المتنقّلين على متن عربة مجرورة بدابّة، لا يحملون معهم آلة وزن مماثلة لآلات وزن المجامع المرخّصة”.

يتعرّض جامعو البلاستيك، إلى منافسة كبيرة في ظل ارتفاع نسب الفقر وعدد العائلات المعوزة الذي يفوق 12 ألف وخمسمائة عائلة، وهو عدد العائلات المسجّل ضمن منظومة العائلات المعوزة لدى إدارة الشؤون الاجتماعية.

مئات النّاشطين في جمع النّفايات، لا يمكنهم الحصول على تغطية اجتماعية بسبب ضعف دخلهم الشهري، وعدم استقراره، وهو ما يفتح ملفّ التغطية الصحّية والاجتماعية لهؤلاء، خاصّة وأنّ عملهم في جمع النفايات، دون وسائل وقاية، يعرّضهم لمخاطر صحّية.

ويقدّم الناشطون في جمع البلاستيك، إلى جانب جني المرابح، خدمة بيئيّة لوزارة البيئة وللبلديّات وينافسون عملة البلديّة في ذلك ويسابقونه، بشكل ملفت تشير إليه أكداس البلاستيك المجمّعة، أكثر من إشارات الأرقام. ومع ذلك لا يجزى جامعو البلاستيك، الجزاء الأوفى نظير عملهم. وهم مهمّشون، علاوة عن النّظرة الاجتماعية المهينة.

إعادة تصنيع متواصلة

ولا تساهم وزارة البيئية سوى عن طريق وكالة التّصرّف في النفيات، من خلال شراء الفواضل الصلبة وبيعها إلى المصنّعين من أجل إعادة تدويرها.

وتحصل وزارة البيئة، على رسوم مفروضة على  مصانع الماء والحليب لتمويل المنظومة. وذلك وفق قاعدة قانونيّة، تفرض على المنتج، وهو الملوّث، ضرائب، وهو أداء جبائي بدل إجباره على جمع القوارير. وتسمّى العمليّة برمّتها بمنظومة “إيكو-لفّ” الّتي سمحت بانسحاب الدّولة تدريجيّا وتشجيع مستثمرين على تجميع البلاستيك القابل للرّسكلة (إعادة التصنيع) من أجل توزيعه على مصانع مختصّة.

بعد تسلميه إلى الوكالة، يدخل البلاستيك المجمع، من الطور البيئي والاجتماعي إلى طور التّصنيع. فتعمل الوكالة على وضع البلاستيك في قوالب تحت الضغط لتيسير نقلها وتوزيعها. حيث تواجدت بولاية القيروان، نقاط رسكلة عديدة، منها ما هو مرخّص له ويعمل في فضاءات صناعيّة مراقبة، ومنها استثمارات بعيدا عن أعين المراقبة، لذلك وجدنا صعوبة في مقابلة أحد المسؤولين عنها.

وبحسب مسؤول بالإدارة الجهويّة للبيئة بالقيروان، تتمتّع قوارير البلاستيك بجودة عالية، وبعد رسكلتها تستخدم في صنع أواني غير غذائيّة، مثل أواني الغسيل والتجهيزات المنزليّة والقنوات والبناءات وغيرها.

وتعمل بعض المصانع على رحي البلاستيك وبيعها إلى مصانع أخرى تحوّله إلى أواني، وتوجد أيضا مصانع مندمجة تقوم بعملّية الرّحي وتحويل المواد البلاستيكية في نفس المصنع إلى استعمالات متعدّدة، غير غذائيّة. وهي مصانع مشغّلة لليد العاملة. وبذلك يعود البلاستيك مرّة ثانية إلى حلقة التصنيع.

هذه المنتجات المُرسكلة، تنزل إلى السّوق ثانية، ثمّ نحو الاستعمال قبل أن تصبح محلّ تفتيش من قبل جامعي البلاستيك الباحثين عن موارد ماليّة تحسّن وضعهم الاجتماعي، ودون وعي بأنهم يحسّنون الوضع البيئي، من حيث لا يشعرون.