في مساء يوم الجمعة ١٢ آب/ أغسطس ١٩٨٨ إقتحمت قوات الشرطة المصرية مسجد “آدم” حيث كانت تعقد الندوة الأسبوعية للجماعة الإسلامية بشكل دوري في منطقة عين شمس. كان الإقتحام الذي خطط له وزير الداخلية زكي بدر بشكل شخصي مقدمة لإندلاع مواجهات دموية عنيفة في المنطقة بين الجماعة الإسلامية وقوات الشرطة امتدت لأسبوعين عرفت لاحقا في أدبيات الجماعة الإسلامية بإسم “أحداث عين شمس”. في الساعة الأولى للأحداث وكنت طفلا عمره لا يتجاوز العشر سنوات وبعد هرج ومرج قصير سمعت أثناءه صوت زخات المدفع الرشاش لأول مرة، وجدت نفسي أقف أمام جثة لرجل ملتحي غارقة في الدماء.
في مساء يوم الجمعة ١٢ آب/ أغسطس ١٩٨٨ إقتحمت قوات الشرطة المصرية مسجد “آدم” حيث كانت تعقد الندوة الأسبوعية للجماعة الإسلامية بشكل دوري في منطقة عين شمس. كان الإقتحام الذي خطط له وزير الداخلية زكي بدر بشكل شخصي مقدمة لإندلاع مواجهات دموية عنيفة في المنطقة بين الجماعة الإسلامية وقوات الشرطة امتدت لأسبوعين عرفت لاحقا في أدبيات الجماعة الإسلامية بإسم “أحداث عين شمس”. في الساعة الأولى للأحداث وكنت طفلا عمره لا يتجاوز العشر سنوات وبعد هرج ومرج قصير سمعت أثناءه صوت زخات المدفع الرشاش لأول مرة، وجدت نفسي أقف أمام جثة لرجل ملتحي غارقة في الدماء. وبعد دقائق وأثناء عودتي مهرولا للمنزل، إستوقفني صديق الطفولة أحمد، والذي كان قد شهد بنفسه إقتحام المسجد الذي يبعد عن بيتنا شارعين ليهددني بصوت صبياني يدعي الخشونة بأنه سينتقم من الأقباط لإقتحام المسجد وأختتم تهديده بأن الإسلاميين سيقتلوننا جميعا.
وبالفعل قامت الجماعة الإسلامية وبالرغم من من حظر التجوال المفروض بمهاجمة أربعة كنائس في المنطقة وذبح احد القساوسة و التي قفزت أبنته – وهي أحد صديقات الطفولة أيضا – من النافذة هربا من اللحاق بمصير أبيها لتموت في الحال. منذ ذلك اليوم ولست سنوات لاحقة ، حاصرت مصفحات الأمن المركزي شارعنا من جهتين وربضت عربات الشرطة المسلحة أمام كنائس المنطقة وأيضا أختفى بعض الشباب الأكبر سنا والذين كنا نشاهدهم يلعبون كرة القدم في الدورات الرمضانية ، أخبرني احمد لاحقا أن أحدهم أنتحر بعد خروجه من المعتقل بعام واحد. تم إحراق كنيستنا المحلية ثلاث مرات أخرى بعد تلك الأحداث واستمرت صداقاتي بأحمد لسنوات حتى افترقت بنا الطرق وقابلته عشية هجرتي للمملكة المتحدة مصادفة في وسط القاهرة وودعني بحرارة، ولازالت لا أفهم حتى اليوم لماذا هاجمت قوات الشرطة مسجد آدم ولا السبب الذي من أجله أراد أحمد أن يقتل كل الأقباط في تلك الليلة.
بعد يومين من الذكرى الخامسة والعشرين لإحداث عين شمس، يعيد التاريخ نفسه في تكرار مملول ومأسوي. فبعد ساعات قليلة من بدء قوات الشرطة المصرية فض إعتصامي رابعة العدوية والنهضة تعرضت عشرات الكنائس لهجمات انتقامية متزامنة في عشر محافظات على الأقل هي الجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج والأقصر والإسكندرية والسويس وشمال سيناء من قبل مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين. لم تكن تلك الهجمات مفاجئة على الأطلاق، فمنذ تدخل الجيش لعزل الرئيس مرسي في الثالث من الشهر الماضي، شنت الجماعة حملة شحن طائفي ممنهجة شاهد عليها عبارات التحريض المكتوبة على حوائط الكنائس وبيوت الأقباط في معظم المحافظات مثل ” إسلامية يا عباد الصليب” و “ضد خيانة السيسسي و النصارى” بالإضافة لوقائع عنف طائفي في خمس محافظات ما زالت نيران بعضها مستعرة. الأمر الذي يدعو للتساؤل ليست المبررات المعلنة للهجوم، فالأقباط متهمين من قبل الجماعة ليس فقط بالمشاركة في “الإنقلاب ” بل في كونهم عصب المظاهرات الحاشدة التي كانت مقدمة له. لكن الجدير بالفحص هنا هو جدوى الهجوم ودوافعه البرجماتية.
فمن الواضح أن الجماعة تتبني في مواجهة الفض تكتيكين متوازيين أولهما خطاب “مظلومية” يندد باستخدام الدولة للقوة المفرطة و ثانيا خطة محكمة لمهاجمة أقسام الشرطة والسجون والمباني الحكومية على نطاق واسع في محاولة لإحداث أكبر قدر من الفوضى ومن ثم إعادة إنتاج لثورة يناير، وعليه فليس من مصلحة الجماعة إفساد خطابها الإنساني المدعى وتشوية صورتها الأخلاقية وخاصة أمام العالم الخارجي بمهاجمة الأقباط ولا من المنطقي تشتيت جهود منتسبيها في مهاجمة اهداف بلا قيمة إستراتيجية كالكنائس بدلا من التركيز على مهاجمة أجهزة الدولة ومقراتها الأمنية.
يقدم الجدل الدائر حاليا حول الأحداث تفسيرين رئيسيين لهذه التساؤلات، أولهما يري في إطار مفهوم “الحلقة الأضعف” أن الإسلاميين كجماعة إجتماعية تتعرض لقمع الدولة وبطشها وفي ظل عجزهم عن مواجهة الأجهزة الامنية المتفوقة في قوتها وأدواتها بمراحل، يقوم الإسلاميين بتوجية عنفهم تجاه الحلقة الأضعف في المجتمع مسقطين على الأقباط كل جرائم الدولة وأوزار مظالم الإسلاميين التاريخية لتحقيق عدة أهداف أهمها التنفيس عن الغضب بالإضافة لتحقيق انتصارات وهمية للحفاظ عن صورة متماسكة عن الذات في وجهة الإنسحاق امام بطش الدولة.
يبدو ذلك التفسير ذو النكهة الفرويدية مقنعا وخاصة وهو قادر على تفسير ظواهر عدة تتعدي الاقباط مثل اضطهاد النساء والمعوقين وغيرهم من “الحلقات الأضعف” في المجتمعات المقهورة. وإن كانت تكمن نقطة ضعف هذا التفسير في إفتراض أن طائفية الإسلاميين هي وليدة قمع الدولة و ليست محورا رئيسيا من بنية الاسلام السياسي الإديولوجية بالأساس، فلا تخبرنا هذه النظرية مثلا لماذا استمر خطاب الأخوان الطائفي عندما كانوا في الحكم خلال العام الماضي أو لماذا لا يوجه اليساريون مثلا غضبهم تجاه الأقباط بصفتهم الحلقة الأضعف عند تعرضهم لقمع الدولة. يتفادي التفسير الثاني نقطة الضعف هذه ويبدأ بفرضية مفاداها أن جوهر بنية الإسلام السياسي هو طائفي بالأساس يرى معركته الرئيسية تمتد خطوطها على حدود الطائفة الدينية وعليه يبدو تماسك جماعة الإخوان أو غيرها من جماعات الإسلام السياسي محكوما بتبرير تهديدا يشكله الأغيار ( الأقباط) على هوية الجماعة ووجودها ينبغي مواجهته، وعليه كلما زادت الحاجة لتماسك الجماعة في ظرف إستثنائي، يتم إختلاق معركة على الخطوط الطائفية.
من واقع التفسيرين المطروحين للهجمات الطائفية الحالية ومن خبرات تاريخية سابقة، يبدو أن الحملة الطائفية ضد الأقباط لن تتوقف قريبا وأن مصفحات الأمن المركزي، إن وجدت ليست كفيلة، بحماية الكنائس ولا روادها. وبينما لا يبدو أن هناك إنفراجة قريبة للأزمة الطاحنة التي تعصف بالبلاد، يبدو أن الأقباط وللأسف سيدفعون أثمانا باهظة لمعركة سيسقطون فيها بين مطرقة طائفية الإخوان و سندان تخاذل الدولة و تقصير أجهزتها الأمنية في القيام بدورها في حماية مواطنيها.