الخلاف على أشده في ليبيا بين الأمازيغ و المؤتمر الوطني العام (البرلمان)، على خلفية تمرير المؤتمر مادة في قانون انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الذي أصدره منتصف تموز/يوليو الحالي، تقلل كثيراً من فرص دسترة اللغة الأمازيغية، المطلب الذي يعتبره الأمازيغ أساسياً في ضمان حقوقهم كمواطنين يتمتعون بخصوصية ثقافية.

الخلاف على أشده في ليبيا بين الأمازيغ و المؤتمر الوطني العام (البرلمان)، على خلفية تمرير المؤتمر مادة في قانون انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الذي أصدره منتصف تموز/يوليو الحالي، تقلل كثيراً من فرص دسترة اللغة الأمازيغية، المطلب الذي يعتبره الأمازيغ أساسياً في ضمان حقوقهم كمواطنين يتمتعون بخصوصية ثقافية.

فالأمازيغ الذين يشكلون أحد التكوينات الأصيلة للمجتمع الليبي، تعرضوا إبان حقبة القذافي لمحاولات مستميتة لطمس هويتهم، الأمر الذي سبب فوبيا لا ينكرها الأمازيغ اليوم، من تعرضهم مجدداً للتضييق عليهم وحرمانهم من رعاية مورثوهم الثقافي وإخراجه للنور.

مد وجزر

الأيام التي سبقت إصدار القانون الأهم في هذه المراحلة الانتقالية، شهدت الكثير من المد والجزر بين الأمازيغ والمؤتمر الوطني العام، ففي الوقت الذي طرح فيه المؤتمر سؤالاً في صفحته على فيسبوك يستفتي فيه المتابعين للصفحة بين اعتماد اللغة الأمازيغية لغة رسمية أم وطنية في ليبيا، استبق المجلس الأعلى للأمازيغ اعتماد القانون بإصدار بيان يطالب فيه النواب الأمازيغ وعددهم 15 نائباً بالانسحاب من عضوية المؤتمر.

بيان المجلس الأعلى للأمازيغ نص على مقاطعة انتخابات الهيئة التأسيسية للجنة صياغة الدستور ترشحاً وانتخاباً وسحب أعضائه من البرلمان، اعتراضاً على ما وصفه “تمثيلاً شكلياً” لمكونات المجتمع في الهيئة. ولم يشفع للمؤتمر كون الرئيس الحالي المنتخب له نوري بو سهمين ينتمي للقومية الأمازيغية، وقد تبع هذا البيان استقالة أربعة نواب أمازيغ على الأقل من المؤتمر.

يقول الكاتب الأمازيغي صلاح انقاب رئيس تحرير مجلة أرمات الأمازيغية لـ “مراسلون” إنه في ليبيا “تم الخلط بين الحقوق الطبيعية التي لا تقبل الاستفتاء ووضعها محل المراهنة السياسيّة أو الصراع الأيديولوجي، وبين المسائل القابلة للنقاش”.

فوق دستورية

“الحقوق الفوق دستورية” كما وصفها انقاب، كحق التعبير والحق في الكلام والحق في التنقل أو العبادة أو الكسب، هي حقوق “لا يجب أن تدخل في مخاض سياسي مبني أصلاً على قواعد خاطئة”، على حد وصفه.

يكمن اعتراض الأمازيغ على المادة رقم 5 من القانون في أنها جعلت للمؤتمر حرية اختيار الآلية المناسبة للتصويت على القرارات المتعلقة بحقوق المكونات الثقافية، بينما كانت المادة تنص على أن يتم اعتماد القرارات من هذا النوع بالتوافق، وهو ما يقلل فرص فرض نواب تلك المكونات لحقوقهم على المؤتمر الذي لا يمكن أن يشكلوا فيه أغلبية لتمرير أي قرار.

إلا أن الكثير ممن يتفقون من حيث المبدأ مع ما نادى به بيان المجلس الأعلى للأمازيغ، يعترضون على قيام هذا المجلس “التوافقي” المنبثق عن مؤتمر الاستحقاق الدستوري لأمازيغ ليبيا الذي عقد في طرابلس مطلع أيار/مايو الماضي، والذي يضم أعضاء من المجالس المحلية للمدن الناطقة بالأمازيغية، بإصدار بيان من هذا النوع ويعتبرون أنه لا يملك الحق بتقرير مصير أحد، أو تعطيل عمل نواب منتخبين.

صلاح انقاب هو أحد هؤلاء حيث يوضح أن “المكونان العرقيان – ويعترض على هذه التسمية – من أمازيغ وعرب مبنيان على وضعية طارئة مرتبطة باللغة، التي هي مكون يكتسب ويفقد”.

وأضاف أن “حصر المسألة الأمازيغية بالأمازيغ يضيع مفهوم الحقوق المدنية بعمومها، ومفهوم كون اللغة والثقافة والدين وكل ممارسات الفرد داخل مساحته الخاصة هي من الأشياء التي يجب على الدولة ضمانها كي تستمر العلاقة بين المواطن والدولة”.

وفي هذا السياق يحذر انقاب من تبعات المرحلة السابقة التي كان سائداً فيها الفكر القومي، الذي يعتبره خطراً جداً على “أنسنة الدولة والدستور، عبر ترسيم دستور يؤسس لدكتاتورية الأغلبيّة”.

تصعيد أمازيغي

ولكن منظمات المجتمع المدني الأمازيغية، ورؤساء المجالس المحلية للمدن الناطقة بالأمازيغية، والعديد من النشطاء الأمازيغ لا ينظرون للأمر من نفس الزاوية، فهم متمسكون جداً بمطلبهم اعتماد الأمازيغية لغة رسمية للدولة الليبية إلى جانب اللغة العربية.

الإعلامية الأمازيغية سناء المنصوري قالت لـ “مراسلون”: “الأمر لا يحتاج تفكيراً، فالأمازيغية تملك ذات حقوق اللغة العربية في أن تكون لغة الدولة، وهذه هي الحالة الوحيدة التي تضمن للأمازيغ نفس الحقوق التي يملكها العرب الليبيون”.

المنصوري ترفض وصف هذا الموقف بالتصعيد الأمازيغي، مشيرة إلى أن هذا المطلب لم يتغير منذ التحرير، وأكدت أن المجلس الوطني الانتقالي الذي تولى الحكم بعد تحرير ليبيا اجتمع عدة مرات سراً بأعيان جبل نفوسة – غرب ليبيا، أغلب سكانه أمازيغ – وناقشوا موضوع دسترة اللغة.

ولم تتردد مقدمة البرامج باللغة الأمازيغية والعربية في الإعلان عبر “مراسلون” أنه في حالة عدم أخذ مطالب الأمازيغ في عين الاعتبار، و “إدراجها أعلى سُلم أولويات السلطة الحاكمة، والموافقة على اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية، فإن الأمازيغ جاهزون ومستعدون لإعلان الحكم الذاتي”، على حد قولها. 
دسترة أم ترسيم

صفحات التواصل الاجتماعي التي تعج بالنقاشات حول هذا الموضوع تُظهر احترام الليبيين بشكل عام لحقوق الأمازيغ في استخدام لغتهم واعتبارها مصدر فخر لليبيا وتنوع في الحضارة وتعدد في الثقافات، ولكن ما أن يُذكر الدستور حتى تبدأ التجاذبات حول شكل ممارسة هذا الحق، تجاذبات لا تخلو من التأثر بالتحالفات الحزبية والمراهنات السياسية.

يقول الكاتب والمحلل السياسي عبد العظيم البشتي في حديثه مع “مراسلون” أن “الأمازيغ عانوا لعقود عدة من طمس هويتهم، ولم يكن ذلك أثناء الحقبة القذافية فقط ، و لكن حتى إبّان العهد الملكي الذي لم ينالوا فيه حقوقهم الطبيعية الكاملة، إذ لم يكن لديهم أيّة وسيلة إعلامية، إذاعية كانت أم صحيفة على سبيل المثال، بل كانوا يتحدّثون لغتهم التي يتعلمونها في بيوتهم قبل أن يدخلوا المدارس التي تدرّس باللغة العربية فقط”.

ويضيف البشتي أن الأمازيغ الذين كان حجم الاضطهاد الواقع عليهم مزدوجاً “يطالبون بدسترة حقوقهم لضمانها بشكل دائم، لتثبّت ولا يمكن لأحد لاحقا التراجع أو النكوص عنها، ولذلك لا مشكلة في دسترة اللغة كلغة وطنية كونها تضمن حقوق إخوتنا الأمازيغ في إبراز هويتهم وذلك بإبراز تراثهم وثقافتهم ، وتأسيس وسائل إعلامهم، وإبراز فنونهم ومورثوهم التاريخي والثقافي”.

وطنية لا رسمية

البشتي يذهب أبعد من ذلك حين يعلن تأييده لفكرة فتح مدارس أمازيغية تعلم الأمازيغ بلغتهم، بل وفتح فروع في المدارس العربية لتعلّم اللغة الأمازيغية لمن أراد من العرب تعلمها، بهدف التعرّف على تراث وثقافة الأمازيغ التي يجهلها الليبيون تماماً.

ولكنه يحدد شكل النص على الأمازيغية في الدستور بأن يعتمدها كلغة “وطنية وليس كلغة رسمية”، ويعتبر أن من “يبالغ في المطالبة بتثبيت اللغة الأمازيغية كلغة رسمية ينتمي لأطراف منطلقها إعاقة بناء الدولة، حيث لايخفى على أحد مدى التعقيدات والصعوبات الفنية والقانونية التي ينطوي عليها اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية، من تغيير للكثير من أوراق الدولة الرسمية ومؤسساتها، بما فيها ما يربط ليبيا بالمؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية”.

البشتي لم يخفِ مخاوفه من الدعوة إلى “نزعات انفصالية مستقبلية، والتي قد تصل في تطرفها إلى خيار الحكم الذاتي و ربما الاستقلال عن ليبيا”، مستنداً في مخاوفه على ما يصفه “استغلال بعض الدوائر العالمية لموضوع الأقليات والإثنيات والأعراق من أجل محاولات تفتيت الكثير من البلدان من أجل إضعافها والسيطرة عليها”.

الاتفاق على مسألة حقوق الأمازيغ هو حالة عامة لدى الليبيين، غير أن معارضة بعض الأطراف السياسية إضافة إلى مفتي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني الذي عبر أكثر من مرة عن رفضه لدسترة الأمازيغية، يضع تحدياً كبيراً أمام من يطالبون بالاعتراف بحقوقهم، ولو من باب الإقرار بدورهم في الثورة التي هبوا للالتحاق بها منذ انطلاق شراراتها الأولى.