في أحد الأزقّة الفرعية، في جهة لافيات بتونس العاصمة، وقفت أمام إحدى قاعات الشاي المعروفة والتي يؤمّها يوميا عشرات الزبائن من مختلف المستويات الاجتماعية. تردّدت قليلا قبل المسك بمقبض الباب الرئيسي والدخول.

كنت متأكّدة أن المحل مفتوح في رمضان رغم الستائر المسدلة بالكامل على نوافذها الزجاجية الطويلة، وصفحات الجرائد التي كانت ملصقة على زجاج الباب الخارجي لحجب الرؤية بالكامل عن أعين عابري السبيل أو المتطفلين الذين يريدون استراق النظر لما يحصل داخل المقهى.

في أحد الأزقّة الفرعية، في جهة لافيات بتونس العاصمة، وقفت أمام إحدى قاعات الشاي المعروفة والتي يؤمّها يوميا عشرات الزبائن من مختلف المستويات الاجتماعية. تردّدت قليلا قبل المسك بمقبض الباب الرئيسي والدخول.

كنت متأكّدة أن المحل مفتوح في رمضان رغم الستائر المسدلة بالكامل على نوافذها الزجاجية الطويلة، وصفحات الجرائد التي كانت ملصقة على زجاج الباب الخارجي لحجب الرؤية بالكامل عن أعين عابري السبيل أو المتطفلين الذين يريدون استراق النظر لما يحصل داخل المقهى.

كنت ما أزال أنظر إلى الباب وأحاول استراق السمع والتقاط أي صوت قادم من الداخل، وإذا بشاب طويل يتجاوزني في لمح البصر ويفتح الباب بسرعة ثم يلقي نظرة الى الخلف وكأنه يريد الاختفاء ويدلف الى الداخل.

استغليت دخول الشاب وأسرعت بالدخول خلفه. بعد تجاوزي عتبة الباب توقّفت قليلا أتفحّص المكان وكأني ابحث عن أحدهم. شعرت أن كل العيون التي في المقهى توجّهت نحوي دفعة واحدة وكأن دخولي باغتهم.

الكل يتفرّس في وكأنه يريد أن يعرف من أكون أو التأكّد أني لا أشكّل “خطرا” على الموجودين.

المكيّف المثبت في الزاوية كان يحاول أن يضفي على المكان بعض الانتعاش رغم دخان السجائر الكثيف الذي يكاد يحجب الرؤية. الأضواء الخافتة في الداخل توحي بأجواء ليلية وكأننا لسنا في وضح النهار. ورغم أن المكان كان يضج بالكثير من الزبائن الاّ أن أصواتهم لم تكن مرتفعة كالمعتاد.

أمامي مباشرة كان النادل منحنيا قليلا، يتلّقى طلبات شاب في مقتبل العمر وكان برفقته فتاتان. فجأة نظر لي مباشرة وطلب مني بلهجة فيها بعض الحدّة “اغلقي الباب من فضلك”. أذعنت لطلبه واخترت طاولة في أقصى المكان تمكنني من رؤية كل ما يحدث في المقهى.

أغلب الزبائن الموجودين بالمكان كانوا من الشباب والنسبة الغالبة من الذكور، لكن هذا لم يمنع وجود بعض الكهول يتخذون طاولات فردية.

على الطاولة المحاذية لطاولتي كان يجلس رجل قدّرت أنه في بداية الخمسينات يدّخن بشراهة إلى درجة تشعر معها أنه يلتهم السجائر التهاما، ويرتشف القهوة رشفات سريعة وهو لا يتوقّف عن النظر حوله. بجانب فنجان القهوة كانت هناك علبة دواء يبدو أنه وضعها متعمّدا وكأنه يريد أن يخبر من حوله أنه مريض وهو ما اضطرّه للإفطار في شهر الصيام.

هاجس الخوف يخيّم على المقاهي

اقترب النادل مني مستفسرا عن طلباتي، طلبت منه فنجان قهوة فاشترط أن آخذ معها قارورة ماء. قلت له ان ذلك يعتبر بيعا مشروطا يعاقب عليه القانون. ابتسم في سخرية وهو يقول “انه شهر رمضان” ثم انصرف ليجلب الطلبات.

عندما عاد قدّم لي الفاتورة، لاحظت أن الأسعار كانت مضخّمة كثيرا لكني تجاوزت ذلك وأنا أحاول أن أبدو لطيفة وأنا أسأل النادل عن أجواء العمل في هذا الشهر.

بدا متبرمّا وهو يجيبني بأنه يمقت العمل في رمضان، فهو يواظب على اداء فريضة الصوم ولكن للضرورة أحكام، فهو مضطر للعمل والتعامل طوال شهر الصيام مع المفطرين.

سألته ما اذا كان المرض وراء هذا العدد من المفطرين، فقال ان بعضهم مريض ولا يقدر على الصوم لكن أغلبهم أصحاء لا يريدون الصوم.

وحول ما اذا كان صاحب المحلّ يخشى من اقتحام بعض الجماعات المتشددة دينيا لمحلّه، خاصّة وأنها حذّرت أصحاب المطاعم والمقاهي من مغبة فتح محلاتهم، أكّد أن صاحب المحل حصل على ترخيص من وزارة الداخلية يسمح له بفتحه في رمضان، لكنه رغم ذلك بقي متيقظا لكل حركة غريبة وهو لا يفارق المكان أبدا.

وزير الحلال والحرام

محطتي التالية في رحلة “تصيّد” المفطرين، كان أحد النزل الشهيرة بشارع الحبيب بورقيبة. الدخول الى المكان كان أكثر أريحية وحرية، باعتباره مكان يعجّ بالسياح من مختلف الجنسيات، لكن مقهى النزل يكاد يقتصر على التونسيين.

وجوه اجتماعية معروفة ارتادت المكان، أحدهم شاعر تونسي كبير ومشهور عندما سألته عن أجواء رمضان، أكّد لي أن حركة النهضة (الحزب الحاكم) تسعى للتضييق على الحريات العامة. وباعتباره معتاد على الافطار فانه لاحظ هذه السنة أن عدد المقاهي المفتوحة في رمضان تقلّص مقارنة ببقية السنوات، لذلك فهو يضطر (حسب قوله) يوميا الى احتساء قهوة باهظة الثمن في نزل من فئة أربعة نجوم.

ما يلاحظ في كل الأماكن المفتوحة لاستقبال المفطرين على اختلاف أسباب افطارهم في رمضان هو توجّس الكثيرين من الزبائن وحتى من أصحاب المحلاّت من مهاجمتهم من بعض الجماعات المتشددة دينيا التي تسوّق نفسها بانها ستقطع دابر الفجور والفسق من المجتمع.

وقد بات عدد كبير من الحقوقيين يستشعرون الخطر حول مصير الحريات الشخصية خاصّة بعد ذلك البلاغ الذي أصدره وزير الشؤون الدينية نور الدين الخادمي قبل أيام من شهر رمضان وذكر فيه أن “المقاهي والمطاعم ملزمة بغلق أبوابها في وجه مرتاديها كامل شهر رمضان”. و”أن رمضان هو شهر الصيام المقدس، وفتح المقاهي غير مسموح به دينيا”.

هذا البلاغ الذي أثار ردود فعل مستاءة ومتندرة حيث أصبح الوزير يعرف منذ ذلك البلاغ “بوزير الحلال والحرام في حكومة الجمهورية الإسلامية الوهابية”.

وقد أثار  البلاغ حفيظة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان وعبّرت في بيان لها أن هذه التصريحات منافية للقانون وتنتهك المبادئ الأساسية لحرية الضمير والمعتقد وتمثّلا شكلا من أشكال الدعوة الى الفتنة والعنف والتباغض بين الأفراد.

وفي تناقض حكومي واضح مع وزارة الشؤون الدينية التي لم تجز الافطار في رمضان أكدت وزارة الداخلية في بيان لها أنها منحت بعض المقاهي والمطاعم رخصا قانونية لاستقبال الزبائن المفطرين دون حرج قانوني.

…………………………………………………………………………..

 

“أيها الفطارة لن تمروّا..لن تمروا”

 

في تصريح لموقع “مراسلون” أكّد عادل العلمي الناشط الديني ورئيس جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- سميت فيما بعد الجمعية الوسطية للتوعية والاصلاح- أنه “سيقاضي كل من تسوّل له نفسه المجاهرة بالإفطار في رمضان اذا ضبط متلبسا في أحد المقاهي أو المطاعم وأن هناك عدد من المتطوعين يجوبون الاماكن العامة لالتقاط صور للمفطرين”.

كما قال أنه سيطالب بتفعيل بنود القانون التونسي التي تنص على ردع الكبائر والمجاهرة بالإفطار دون موجب في شهر رمضان المعظّم، واعتبر الافطر في هذا الشهر من الكبائر وفيه خدش لمشاعر المسلمين وأنه شكّل لجنة من المحامين لتعقّب المفطرين ورفع قضايا بهم أمام المحاكم.

وعادل العلمي هو من الشخصيات المثيرة للجدل في تونس فهو من مناصري فكرة تعدد الزوجات في تونس وهو من دعا أيضا إلى جلد الفتاة أمينة 100 جلدة ورجمها حدّ الموت باعتبارها تنتمي لمنظمة “فيمن” وقامت بتعرية صدرها على الملأ.

وقد أطلق عادل العلمي قبل أيام حملة بعنوان “أيها الفطارة لن تمروّا.. لن تمروّا”، وهي دعوة أثارت استنكارا كبيرا داخل أفراد المجتمع التونسي المعروف باعتداله وتسامحه. اعتبروها تدخلا سافرا في الحرية الشخصية وفي علاقة الانسان بربه. وقد قابلتها  دعوة “مضادة” أطلقها شباب على شبكات التواصل الاجتماعي تشجع على التجاهر بإفطارهم ونشر صورهم على صفحات الفايسبوك وتويتر وهم يأكلون ويشربون ويدخنون السجائر في وضح النهار خلال رمضان.