أن تصر وسائل الاعلام الغربية على إطلاق عنوان الانقلاب العسكري على 30 يونيو هو حالة من خداع النفس لاتقل في فداحتها عن إصرار الرئيس المخلوع مرسي على القول بشرعيته. وهو ما يدعونا في الحقيقة للنظر في الكيفية التي تعكس بها وسائل الاعلام الغربية واقعنا المصري والاقليمي بوجه عام، كما يدعونا أيضاً للبحث في رؤيتنا نحن لقضية حرية الصحافة.
أن تصر وسائل الاعلام الغربية على إطلاق عنوان الانقلاب العسكري على 30 يونيو هو حالة من خداع النفس لاتقل في فداحتها عن إصرار الرئيس المخلوع مرسي على القول بشرعيته. وهو ما يدعونا في الحقيقة للنظر في الكيفية التي تعكس بها وسائل الاعلام الغربية واقعنا المصري والاقليمي بوجه عام، كما يدعونا أيضاً للبحث في رؤيتنا نحن لقضية حرية الصحافة.
شبكة CNN تقوم بتغطية ثورة 30 يونيو في مصر تحت عنوان “الانقلاب العسكري” مؤكدة بذلك على الطابع الشديد التحيز للتغطية الاعلامية الغربية لتلك الموجة الجديدة من الثورة المصرية. نماذج أخرى على الطريقة نفسها: عنوان في مجلة الإيكونومست “مأساة مصر” ، مجله تايم بدورها تقول بأن الانقلاب يكشف عن تحلل مصر أما شبكة NPR الأمريكية فتبدأ تغطيتها تحت عنوان “ما بعد الانقلاب”.
ولعلنا نقدر أن في تمكن المصريين مرة أخرى من تحدي الصورة النمطية عنهم لدى الغرب قد لعب دورا في إزعاج القائمين على وسائل الاعلام الغربية. فكانت الصورة النمطية للمصريين عند هؤلاء لفترة من الزمن أنهم شعب خانع، خامد وغير مبالٍ. ثم في فترة أخرى أنهم شعب محافظ، متعصب دينيا، يريد حكما إسلاميا.
فليس أمراً سهلاً الاعتراف بأن هذه الصورة النمطية والتي استثمرت الميديا الغربية سنوات في بنائها في العقل الغربي إنما هي صورة تخالف الحقيقة والواقع. وبالذات منذ هجمات 11سبتمبر تم تصوير العرب والمسلمين بانهم متعصبون، دينيون، كارهون للغرب وللولايات المتحدة، ومنبع دائم للإرهاب الدولي. وهذه الصورة في الحقيقة هي ما جعلت البديل الإخواني يبدو شديد الإغراء من وجهة نظرهم، فها هي قوة إسلامية على أتم الاستعداد للتفاهم مع الغرب وأمريكا، تحافظ على أمن إسرائيل وتعطي للشعب المحافظ دينيا النظام الديني المفترض أنه يرغب فيه ويريده.
وكانت وسائل الاعلام الغربية عملت لسنوات طوال على “فلترة” الأصوات المصرية الخارجة عن تلك الصورة النمطية. ثم في لحظة تخرج الملايين للشارع يوما بعد الآخر، ليمتلئ الفضاء العام المصري بأصوات نشطاء شباب يطرحون خطابا عقلانيا حرا، رافضا للاستبداد، ومصرا على استكمال الثورة. وفي الوقت نفسه يؤكد رجل الشارع في ربوع مصر على رفضه لجماعة تصر على أن تقول له كيف يكون مسلماً.
فكان من الطبيعي اذن أن يأتي 30 يونيو صادماً للغرب عموما، ولأجهزته الإعلامية على وجه الخصوص، حيث حطم في غضون ساعات صورة راسخة “لخصوصيتنا الثقافية” عندهم.
أما في الواقع فان قصة الثورة المصرية المستمرة تحفل بـالتعقيد.
فإذا كان لا يمكننا لوم أجهزة الإعلام تلك على أن تطرح أسئلة من نوع: ما هو دور النظام القديم وفلوله، بما فيها الأجهزة البوليسية؟ ماذا كان دور القوات المسلحة و أجهزة الاستخبارات؟ ألا يشكل إغلاق القنوات التليفزيونية عدوانا علي حرية الصحافة؟ ماذا حدث عند اعتصام دار الحرس الجمهوري؟
من حقهم أن يسألوا مثل هذه الأسئلة، غير أن التوصل للإجابات أقرب للصواب تحتاج إلى فهم السياق، وبغير فهم تعقيدات السياق تعدو التغطية الصحفية مسطحة وفي أكثر الأحيان مشوهة. ولعله من غير المفاجئ أن اغلب المراسلين الصحفيين الغربيين لا يتمتعون بكثير من العمق في تغطية الحداث الخارجية. الكثيرون منهم يهبطون على مكان الحدث في بلد لا يعرفون عنه الكثير ولا يعرفون لغته ويلجؤون إلى صحفي محلي يُسمى “فيكسر” fixer يصطحبهم في جولاتهم وينظم لقاءات صحفية، يترجم ويشرح قدر ما يستطيع. وتحضرني في هذا السياق أن سألني صحفي أمريكي قادم لتوه من المطار، وكنت قد وافقت على العمل معه “فيكسر”: اين تقع أقرب منطقة للإرهابيين هنا؟” حدث هذا بالفعل.
هنالك بطبيعة الحال استثناءات، ولكنها من ذلك النوع الذي يثبت القاعدة.
هناك عوامل أخرى وراء أوجه القصور في التغطية الصحفية الغربية لواقعنا، فعلينا أن نضع في الاعتبار آثار حسابات التكلفة لدى المؤسسات الصحفية والأهمية النسبية للتغطية الخارجية على سلم أولويات تلك المؤسسات، وعادة ما تكون من بين أول ما يضحى به عندما تضطر تلك المؤسسات لتخفيض نفقاتها.
ويبقي أنه من الخطأ مع ذلك أن نضع كل الاعلام الغربي في سلة واحدة. فالاعلام الأمريكي على سبيل المثال يحفل بالتنوع والتعدد، وتطغى عليه المؤسسات الصحفية العملاقة التي تكاد تحتكر صورة الاعلام المريكي. والتحدي في هذا الأمر ليس فقط فيما يتعلق بتغطية واقعنا نحن ولكن حتى فيما يتعلق بالتغطية المحلية في الولايات المتحدة نفسها هو في البحث عن تلك الاصوات الاعلامية المختلفة والعمل على إبرازها. فمشكلة بنية الصناعة الاعلامية تكمن في الهيمنة الطاغية لمجموعة محدودة من المؤسسات العملاقة شديدة التمركز.
صورة وسائل الاعلام الغربية عن نفسها هي أنها حرة، متحدية، وذكية. و ليس هذا بعيدا عن الحقيقة. فرغم ما سبق يمكننا مع ذلك أن نكشف عن نماذج ساطعة لتغطية صحفية أمريكية لما وقع في مصر منذ 30 يونيو ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر “اللوم يقع على مرسي” في مجلة فورن بولوسي ومقالة “ما بعد إطلاق النار في القاهرة” في مجلة النيو يوركر.
قد بينت مصر بل والمنطقة بأسرها في غضون العامين ونيف الماضيين أنها أكثر تعقيداً وثراءً بكثير مما كان يظن عنها أو يتوقع منها. و هو ما يفرض على صالات التحرير في الغرب أن تعيد النظر في طريقة وأدوات تناولها لقضايا وتطورات هذه المنطقة. فلم يكن هذا الأمر بمثل هذه الأهمية من قبل.
ولكن هناك من الدروس ما يجب أن نتعلمه نحن بدورنا. كان رد المصريين على التغطية الغربية المنحازة فورية. حملة على تويتر وحملة إلكترونية لجمع التوقيعات وفضح الـ CNN جمعت حتى الآن 45 ألف توقيع.
ولكن دعنا ننظر إلى وجه آخر من رد الفعل. ليس من الحكمة على سبيل المثال منع أو تعويق الصحفيين الأجانب في تغطية ما يجري. فيصعب أن تلوم أحداً على أنه لم يقدم الصورة الكاملة لحدث ما في حين تحول دونه والوصول إلى الحدث. في أعقاب 30 يونيو قامت السلطات بتعليق حرية حركة المراسلين الأجانب وفي أحيان كثيرة منعوا من الوصول إلى تظاهرات مؤيدي الإخوان المسلمين بواسطة حواجز الشرطة أو الجيش. وهناك أيضاً واقعه استيلاء أفراد من القوات المسلحة على كاميرا فريق الـ CNN و مراسلتها بن ويفدمان وهم يقومون بتغطية المظاهرات في التحرير. كما تم احتجاز درك امريش، مراسل التلفزيون الألماني RTL و طاقمه لمدة 7 ساعات إبان محاولاتهم تغطية مظاهرات الإخوان في ميدان رابعة العدوية. وفي مؤتمر صحفي يوم 8 يوليو دعا متحدث باسم القوات المسلحة الأجانب بما فيهم مراسلي وسائل الاعلام إلى البقاء بعيداً عن المظاهرات والمنشآت العسكرية.
كما رصد تقريراً لمنظمة صحفيين بلا حدود أن وسائل الاعلام مثل الـ CNN والجزيرة التي تصف خلع مرسي بانه انقلاب عسكري تتعرض للضغوط والرقابة من قبل السلطات الانتقالية بمصر وأن عدداً من المراسلين الأجانب صرحوا أنهم يشعرون بالخطر وهم يؤدون عملهم.
الإعلام المصري يعيش حالة من الاستقطاب السياسي الحاد وهو ما يؤثر سلباً على مستوى التغطية الصحفية وتوازنها. قد فاجئتنا الأحداث والتطورات الكبرى التي شهدتها بلدنا تباعاً في العاميين والنصف الماضيين ولكننا سنكون اشد الخاسرين إذا ما عجزنا عن التعرف باقصى ما يمكن من الدقة والثراء عن واقعنا المتغير. كما أننا ونحن نسعى إلى الكشف عن حقيقة واقعنا بعد عقود من الكبت نكشف عن العناصر الأهم لهويتنا: حب الحياة، إعلاء قيمة الكرامة الإنسانية ورغبة جارفة أن نأخذ مكانا تحت شمس العالم الحديث. فدعنا نتذكر أن صحافتنا حتى تنجح في القيام بواجبها يجب إلا تقع في نفس الأخطاء التي تنتقدها.