ظاهرة سكنى المقابر معروفة في المدن الكبيرة مثل القاهرة قديمة وتعود إلى التكدس السكاني، لكن المثير في الأمر أن هذه المشكلة موجودة أيضا في قرى توجد بها مساحات كافية للبناء.

أهالي عزبة الجبانات بمركز البداري في أسيوط، والذين يبلغ عددهم 1000 نسمة تقريبا مقسمين إلى نحو 55 أسرة، لم يجدوا مسكنا لهم سوى بجوار المقابر التي يعملون فيها كحراس أو تُربية، لكن حتى هذا النوع من السكن المتواضع أصبح الحصول عليه صعبا اليوم، بسبب ارتفاع سعر الأراضي، والضرائب علي السكن، الأمر الذي يهددهم بالحبس لعدم قدرتهم علي الدفع. موقع “مراسلون” التقى أهالي العزبة للتعرف على مشكلتهم.

ظاهرة سكنى المقابر معروفة في المدن الكبيرة مثل القاهرة قديمة وتعود إلى التكدس السكاني، لكن المثير في الأمر أن هذه المشكلة موجودة أيضا في قرى توجد بها مساحات كافية للبناء.

أهالي عزبة الجبانات بمركز البداري في أسيوط، والذين يبلغ عددهم 1000 نسمة تقريبا مقسمين إلى نحو 55 أسرة، لم يجدوا مسكنا لهم سوى بجوار المقابر التي يعملون فيها كحراس أو تُربية، لكن حتى هذا النوع من السكن المتواضع أصبح الحصول عليه صعبا اليوم، بسبب ارتفاع سعر الأراضي، والضرائب علي السكن، الأمر الذي يهددهم بالحبس لعدم قدرتهم علي الدفع. موقع “مراسلون” التقى أهالي العزبة للتعرف على مشكلتهم.

عمّ محمد حسن

علي طريق ترابي غير ممهد يبعد عن القرية الأم “العتمانية” 8 كيلو مترات تقريبا، تقع عزبة الجبانات بالقرب من الجبل الشرقي، حيث تتراص المنازل البسيطة في مواجهة المقابر، وحيث يسكن الموتى في هدوء تام، بينما يتعذب الأحياء في مسكنهم.

[ibimage==6987==Small_Image==none==self==null]

محمد حسن

جولتنا في القرية قادتنا إلى لقاء عم محمد حسن، الذي يبلغ من العمر 66 عاما، لايعمل، ويعاني من مرض ضعف الأعصاب، ويقيم في مكان يشبه إلى حد كبير العشة أو الحظيرة، يتكون من طابق واحد مبني بالطوب اللبن، وواجهته مسقوفة بالخوص والجريد وسعف النخيل.

ما أن رآنا حتى ترجل واقفا بصعوبة، بسبب مرضه، وبدأ يسرد لنا تفاصيل المشكلة التي يعاني منها وأهل العزبة، قائلا “لم أكن أتخيل يا بني أنه سيأتي اليوم الذي لا أستطيع فيه أن أبني بيتا لأزوج أبنائي فيه وأفرح بهم. لدي 4 أولاد اثنين منهم يعيشون في القاهرة ويعلمون أجرية، واثنين يعيشون معي هنا، ويعملون أيضا أجرية من أجل معاونتي ووالدتهم علي أعباء المعيشة، خصوصا وأنا مريض بالأعصاب وآخضع لجلسات كل أسبوع تكلفتها 500 جنيه شهريا بخلاف مصاريف العلاج”.

ويضيف العم محسن “كنت أتمنى أن ابني منزلا وأفرح بأولادي قبل أن أموت، لكن سعر الأرض هنا في العزبة غال جدا، ومصاريف المباني ثقيلة، والحكومة لاترغب في مساعدتنا، لأنها تريد أن تسجننا”.

“مطالب الحكومة فوق طاقتنا”

تتركز مشكلة أهالي العزبة في مطالبة الحكومة لهم بدفع مستحقات مالية نظير إقامتهم في بيوتهم المتواضعة، دون أن تعير المنطقة أي اهتمام تنمويّ.

يكمل عم محمد حسن حديثه عائدا بذاكرته الضعيفة إلى سنوات مضت ويقول: “كنا يا ابني قبل الثورة ندفع منافع للحكومة تقريبا نصف جنيه للمتر، وكنت أدفع عن البيت الذي أقطنه  حوالي 300 جنيه (50 دولار أمريكي) في السنة، وقبل الثورة بفترة قليلة قام وزير المالية بطرس غالي برفع سعر المتر لسبعة جنيه ونصف، وجاءتنا مطالبات من الضرائب العقارية بالآلاف، لكن يا بني كما ترى فالعين بصيرة واليد قصيرة. تدبرت الفلوس من أهل الخير وأولادي أرسلوا لي قرشين من القاهرة وجمعت مبلغ الـ3000 (500 دولار أمريكي) جنيه ودفعتهم عن مطالبات 2008/ 2009”.

يستدرك قائلا “إن ذلك حدث بعدما قامت الحكومة الحالية برفع قضايا ضدنا من أجل أن تحبسنا، وتدخلنا السجن، والموضوع لم ينته إلى هذا الحد لأن الحكومة رجعت مرة ثانية، وطالبتنا بمتأخرات 2010 و2011 و2012 و2013، ولسنا قادرين علي الدفع، لأن الفلوس اللي طلبتها الحكومة منا كثيرة، وفوق طاقتنا”.

“أجيب من فين؟”

علي بُعد عدة أمتار من منزل عم محمد حسن تعيش الأرملة شربات صديق سلمان، صاحبة الخمسين عاما، حيث توفي زوجها وترك لها ابنا لديه خمسة عشر عاما، ترك دراسته، وغادر القرية إلي القاهرة بحثا عن مصدر رزق له ولوالدته التي تقيم في إحدى عشش العزبة.

[ibimage==6993==Small_Image==none==self==null]

 شربات صديق سلمان

تقص “شربات” معاناتها مع الضرائب العقارية قائلة: “الحكومة في سنة 2009 حجزت علي العشة اللي ساكنة فيها أنا وابني، وخدوا ابني وحبسوه، وقتها كان علينا فلوس للضرايب العقارية حوالي 3500 جنيه، ولاد الحلال في العزبة استرأفوا بحالتي وجمعوا لي الفلوس عشان أطلع ابني من السجن، وبالفعل دفعت المبلغ، ولحد دلوقتي عليّ فلوس للناس اللي ساعدتني، والحكومة مكفهاش إنها تعمل كدة فينا، كمان راحت طلبت فلوس تانية علينا حوالي 7 الآف جنيه من سنة 2010 وحتى 2013، طيب حد يقولي أجيب من فين وإحنا لسة مسددناش القديم؟”

“أهالي العزبة يتحملون جزء من المسؤولية”

اتحاد شباب الثورة بالبداري رصد معاناة أهالي العزبة، وأعلن تضامنه معهم، ووفقا للمتحدث باسم الاتحاد عقيل إسماعيل عقيل، الذي قال: “إننا طرحنا المشكلة على المسؤولين بالمحافظة أكثر من مرة، ولكن لم يتحرك أحد لإنقاذ هؤلاء الناس”. وطالب بتشكيل لجنة لإعادة تقييم إيجار المتر في العزبة، لاسيما وأن المناطق المجاورة للعزبة يتم التعامل معها بسعر أقل بكثير من ذلك.

وردا على ذلك يقول سامح عبدالعليم، رئيس مدينة البداري، إن السبب في ارتفاع سعر المتر في العزبة قبل الثورة أنها كانت بدون مرافق أو خدمات، ولكن الوضع تغير الآن بعد دخول المياه والكهرباء إليها”.

ويضيف “لا أنكر أن عملية تقدير سعر المتر فيه نوع من المغالاة، وكان هذا التقدير في ظل النظام السابق، وقد قمت برفع أكثر من مذكرة لمحافظ أسيوط بشأن أهالي العزبة لدراسة أوضاعهم وتقنينها، ولكني ألوم أهل العزبة أيضا لأنهم ظلوا مستفيدين طوال هذه السنوات بالأرض دون أن يتقدموا بتقنين أوضاعهم بالشراء، حيث كان الأرض وقتها رخيصة، حيث كان الفدان يباع بـ200 جنيه.

كذلك يوضح عبد العليم السببب في تفاوت أسعار الإيجارات في المناطقة المجاورة قائلا “أما بالنسبة للأرض المجاورة للعزبة، فهي أرض زراعية، والضرائب قدرت المتر فيها بـ 75 قرشا كحق انتفاع في السنة، أما أرض العزبة فهي سكنية، ومن هنا جاء الفرق في سعر الأرض”.

الأبناء يبحثون عن مكان آخر

يعيش معظم أهالي العزبة على مهنة حفر القبور، دون أن تقدم لهم الدولة رعاية صحية أو كفالة اجتماعية، حتى هذه المهنة لم تعد تسد رمقهم، حيث امتلأت المقابر بالموتى وأصبحت عمليات الدفن قليلة فيها. هذا الأمر دفع أبناء العزبة إلى محاولة السفر إلى القاهرة أو ليبيا بحثا عن لقمة عيش تسد جوع أهاليهم من كبار السن والأرامل.

الحاج محمود حسين عميش، ابن الثمانين عاما، تُربي (حفار قبور) يقول: “مطالبات الحكومة دفعت ابني للسفر إلي دولة ليبيا من أجل توفير الأموال لنا لندفع ماعلينا من متأخرات خوفا من حبسي، بعد أن تم الحجز على البيت الذي نقيم فيه، خاصة بعد أن بعت الجاموسة التي أمتلكها، لسداد 7 الآف جنيه من إجمالي المتأخرات عن عام 2008/ 2009، ولكن يتبقي علينا مطالبات 2010، و2011، و2012، و2013، وليس في استطاعتي دفعهم، لأنني لا أملك من حطام الدينا سوى المنزل الذي أقيم فيه، ومعاش السادات وقدره 250 جنيه، ومساعدات أصحاب المقابر، حيث يمنحنا كل صاحب مقبرة من إجمالي 35 مقبرة أقوم بحراستها نصف كيلة (أي 6.5 كيلوجرامات) من الغلال سنويا”.

المحافظ مطلع على القضية

بعرض الأمر علي محافظ الإقليم الدكتور يحيي كشك، محافظ أسيوط، بدا وكأنه متعاطف مع حال أهالي العزبة وقال:”للأسف الشديد أهالي العزبة يقعون تحت طائلة قوانين ظالمة من عهد النظام السابق، ولدي علم ودراية بالموضوع، وسوف أرسل إلي المسؤولين في ديوان المحافظة لبحث مشكلتهم وتقدير حجم المتأخرات عليهم، ودفعها من خلال الشؤون الاجتماعية أو الجمعيات التي تعمل في مجال المساعدات الإنسانية، وذلك بشكل مؤقت”.

الدكتور كشك أكد أنه سوف يقوم بتحرير مذكرة بالمشكلة لوزير المالية لحلها بشكل قانوني، لأن تحصيل هذه الضرائب يتم وفقا لقانون سابق صدر في عهد يوسف بطرس غالي وزير المالية الأسبق.

في النهاية يرغب عم محمد حسن في إرسال رسالة إلي المسؤولين في أسيوط: “إحنا بدأنا نفقد شعورنا بالانتماء للبلد دي، عشان لسة فيها ناس مسؤولة مش قادرة تحس بالغلابة والمطحونين اللي زي حلاتنا”.