لم تعد الهجرة غير الشرعية طريقا وعرةً يطرقها الشباب فقط، فالأطفال والقُصّر ساروا أيضا على خطى الكبار في طريق الهجرة غير الشرعية، مستفيدين من ثغرات قانونية في أوروبا. فأصبحت مصر تحتل المركز الثالث دوليا في تصدير هذا النوع من الهجرة، بينما تحتل محافظة أسيوط في صعيد مصر المركز الأول في تصدير الأطفال لايطاليا.

في انتظار الابن

لم تعد الهجرة غير الشرعية طريقا وعرةً يطرقها الشباب فقط، فالأطفال والقُصّر ساروا أيضا على خطى الكبار في طريق الهجرة غير الشرعية، مستفيدين من ثغرات قانونية في أوروبا. فأصبحت مصر تحتل المركز الثالث دوليا في تصدير هذا النوع من الهجرة، بينما تحتل محافظة أسيوط في صعيد مصر المركز الأول في تصدير الأطفال لايطاليا.

في انتظار الابن

تجلس علي عتبة منزلها في انتظار عودة ابنها ولم تعد تملك غير الصورة التي تضعها بجوارها. وتعود بذاكرتها دوما إلى ذلك اليوم عندما ذهبت إلى سوق المواشي لتبيع “جاموسة” هي كل ما تملك، لكي يكمل ولدها ياسر المبلغ المتفق عليه مع السمسار للسفر إلى ايطاليا عبر البحر من خلال ليبيا، بعد ان تورط زوجها العامل باليومية في كتابة إيصالات أمانه علي نفسه مستدينا ما تبقى من المبلغ الذي بلغ حوالي ثلاثين الف جنيها مصريا أي ما يعادل ٥ آلاف دولار.

ورضخت نعيمه فاروق وزوجها مضطرين أو راغبين أمام طموح الطفل في السفر وراء البحار، علّه يرجع كغيره من أطفال القرية مستقبلا محملا بالغنائم والأموال كي يبني البيت ويرجع الغيط ويعيل بقية افراد أسرته الخمسة، فالحاجة ماسة والدين استفحل، كما يقولان.

ياسر السيد محمد يبلغ من العمر 16 عاما من مركز أبنوب بصعيد مصر التي تبعد عن القاهرة 400 كم جنوبا، لم يكمل تعليمه الثانوي، وهو ليس حالة وحيدة بل هناك أكثر من 10 آلاف طفل وقاصر في صعيد مصر وفقا لبيانات وزارة القوى العاملة والهجرة، يسعون للهجرة إلى أوروبا، خاصة بعدما انتشر سماسرة الهجرة غير الشرعية في مراكز الصعيد المختلفة وتحديدا في قري المنيا وأسيوط وسوهاج والوادي الجديد.

ثغرة في القانون

يقول الدكتور ناصر مسلم مسؤول برامج الحماية بالمجلس القومي للأمومة والطفولة في مصر إن ظاهرة هجرة الأطفال غير الشرعية ظهرت منذ عام 2007، وترجع إلي ثغرة في القانون الايطالي تقول إن كل طفل يدخل إلى الأراضي الايطالية أقل من 18 سنه وغير مصحوب بأحد والديه هو في رعاية الحكومة الايطالية. وهي النقطة التي استغلها تجار البشر والموت الذين يأخذون الأطفال من سن الحادية عشر، ويلقوهم إلى المجهول، كما يقول مسلم.

وأضاف “مصر قفزت لتحتل المركز الثالث علي مستوي العالم في تصدير الهجرة غير الشرعية للأطفال القصر بعد دولتي أفغانستان وتونس.

ويشير تقرير للحكومة الايطالية صادر عام 2008 إلى أن ترتيب المحافظات المصدرة للهجرة غير الشرعية كالتالي “الفيوم – الشرقية – الغربية – القليوبية – أسيوط” إلا ان تقريرا حديثا صادر في 28 شباط/فبراير من العام الجاري قفز بمحافظة أسيوط لتحتل صدارة المحافظات المصدرة للهجرة غير الشرعية بنسبة تتعدي الـ 20٪ من إجمالي الأطفال المهاجرين هجرة غير شرعية لدولة ايطاليا الذين بلغ عددهم حوالي 1850 طفلا مصريا يحتل مركز أبنوب بمحافظة أسيوط نسبة 95٪ منها”. معروف أن صعيد مصر من أكثر المناطق فقرا واحتياجا للتنمية.

دور الأسرة

حلم الثراء المادي عن طريق الهجرة لا يراود الشباب فقط، بل في بعض الأحيان يقف الوالدين وراء هذا الحلم. ففي حالة محمد ع ا من قرية كفر كلا بمركز السنطة بمحافظة الغربية، كما يشير ويشير الدكتور ناصر مسلم، لم يكن السفر هو رغبته وإنما رغبة والده.

فلقد أخرجه والده من المدرسة وهو في سن الثانية عشرة من العمر، وباع ما يملك من أرض زراعيه تقدر بقيراطين ثمنهما ما يعادل 30 الف جنيه حوالي 5 الاف دولار، ودفعهم لسمسار هجرة غير شرعية إلى ايطاليا، حيث سافر الفتى إلى ليبيا ومكث في محطة التخزين “وهو اسم يطلق على مكان تجميع المسافرين” لمدة 21 يوما.

خلالها تعدى عليه زملائه في الرحلة بالضرب وتحرشوا به أكثر من مرة واستقلوا جميعهم المركب وكانوا 24 شخصا بينهم 6 أطفال وأبحرت بهم تجاه الشواطئ الايطالية، ولكنها تعرضت لعاصفة كادت أن تغرقها ولم يجدوا مفرا من العودة إلى الشواطئ الليبية، حيث قبض عليهم خفر السواحل الليبي. وتم إيقاف محمد لمدة 6 شهور بأحد السجون الليبية ثم عاد إلى مصر محطما تماما وامضى في أحد المستشفيات 3 شهور بسبب حالته النفسية وكسر عظام الكتف نتيجة تعدي زملائه عليه، كما يروي الدكتور مسلم.

زملاء محمد في المدرسة أصبحوا الآن طلاب جامعيين وهو في الشارع يبيع بعض الخضر والفاكهة وتحاوط أهله الديون من كل جانب بعد أن باعوا الأرض التي يملكونها ودخل في حالة نفسيه سيئة.

“طموحه وطموحنا”

تعود نعيمة فاروق لتروي بقية الحكاية، وتقول إن الخوف انتابها لكنها لم تكن تستطيع منعه. فلقد فقد ياسر الأمل في أن يحيا حياة كريمة في بلده. وكان يقول إنه لن يجد فرصة عمل ولن تنفعه الشهادة. وترك التعليم خاصة بعدما علم أن بعض الذين سافروا قبله أصبحوا أثرياء. وبعضهم عاد لتظهر عليه وأسرته علامات الثراء الفاحش، بينما يعمل هنا باليومية.

وتقول السيدة فاروق “أنا وأبوه خفنا عليه ليموت قهرا ولم نكن لنستطع أن نقف أمام تحقيق طموحه وطموحنا أيضا، فلقد رأينا حياة إخوته في سفره ولم نفكر أبدا فيما يمكن ان يتعرض له من مخاطر”.

عصابات مخدرات وتجارة بالأعضاء

يقول هيثم القاضي مسؤول برامج بهيئة إنقاذ الطفولة إنه وفقا لتقارير الحكومة الايطالية فان 25 ٪ من الأطفال تحت سن 18 سنة الذين يصلون ايطاليا دون عائل هم من مصر، ومعظمهم بين 16 إلى 17 سنه، ومنهم 13 و14 سنة. ويتعرضون للعديد من الأخطار تبدأ أثناء الرحلة كصعوبات المأكل والمشرب والتعدي عليهم من المهربين، وبعد الوصول يتعرضون لحالات تهديد لدفع المبلغ المتبقي من قبل المهربين قبل أن يصل خفر السواحل الايطالي. بالإضافة لخطر الهروب من مؤسسات الرعاية والتعرض للخطف لمساومة الأسرة على دفع فدية.

ويضيف هيثم القاضي الذي تولي مسؤولية ملجأ بايطاليا سابقا انه قد تبين له من خلال اللقاءات التي تمت مع أطفال قصر بمختلف المدن الايطالية أن الأقارب هم أكثر الناس استغلالا لأقاربهم القصر، حيث يثقون فيهم ثقة تامة في مثل هذا السن فهم لا يعرفون قواعد العمل ولا نظامه أو عدد الساعات كما يوفرون على أقاربهم عبء الضرائب.

أحمد سعد ثابت الباحث في مجال حقوق الإنسان يقول إنه وفقا لتقرير للبرلمان الإيطالي فإن الأطفال يتعرضون لخطر الاتجار بالأعضاء البشرية‏ بجانب الدعارة والتدريب على تهريب المخدرات.‏وأيضا تجنيد الصغار لعمليات اجرامية تستخدمها عصابات المافيا بالتعاون مع عصابات أجنبية متخصصة فى الجريمة المنظمة‏.

وربط التقرير زيادة صفقات زرع الأعضاء البشرية لأطفال وشباب أثرياء أوروبا بحجم تدفق الهجرة غير المشروعة على السواحل الإيطالية‏،‏ حيث تنشط عمليات سمسرة بيع الأعضاء البشرية، وفقا للتقرير الصادر 2009. ‏

دور منظمات المجتمع المدني

استفحال ظاهرة هجرة الأطفال غير الشرعية قرع نواقيس الخطر لدى الحكومة الإيطالية، فمولت وزارة والعمل والسياسات الإجتماعية الإيطالية مشروعا لتوعية الشباب المصري في محافظة الفيوم بمخاطر الهجرة غير الشرعية، كما يؤكد يعقوب كوريناري مسؤول البرامج بالمنظمة الدولية للهجرة، مضيفا أن المشروع أطلقته المنظمة بالتعاون مع وزارة التعليم المصرية والمجلس القومي للأمومة والطفولة وهيئة إنقاذ الطفولة، وبتمويل الوزارة الإيطالية. ويسعى المشروع لتقديم معلومات وبدائل للهجرة السرية، ويعد استجابة مستدامة ووقائية للمعدلات المقلقة للهجرة غير الشرعية بين القاصرين.

كذلك تعمل منظمات مجتمع مدني أخرى لحل هذه الظاهرة، فيقول حاتم قطب مدير هيئة تير ديزوم بصعيد مصر “نعمل جميعا في تطبيق وتفعيل منظومة والية حماية الطفل. وقانون الطفل رقم 126 لسنة 2008 فيه مجموعه من المواد بشأن تشكيل لجان للحماية على المستوي المحلي لرصد وإدراج المخاطر التي يتعرض لها الطفل، حتى نبدأ تدخلات فعلية علي مستوي الأرض لحماية الأطفال”.

ويضيف بأهمية تكاتف الجهود الحكومية مع الجمعيات الأهلية العاملة في مصر والتي بلغت 43 الف جمعيه يساندها الدستور الجديد ويؤسس لعملها.

جيلا وراء جيلا

قصة محمد هي مثال لتلك الأخطار التي يتعرض لها المهاجرون السريون. يقول محمود س ع من محافظة الفيوم “سافر أخي محمد 16 عاما على متن مركب أبحرت من ليبيا إلى شواطئ ايطاليا. كانت تحمل 24 فردا. وتعرضوا للتهديد بالموت وبمياه النار أثناء الرحلة لكي يدفعوا المبلغ المتبقي، ولكن المركب غرق ولقي منهم 3 أشخاص مصرعهم”.

يتابع محمود بأن محمد نجا وانتشله خفر السواحل الايطالي، ودخل إلى مركز لاستقبال القُصّر في ايطاليا، لكنه هرب منه بناءً على نصيحة أقربائه، وذهب إلى عمه الذي لم يتحمل الإنفاق عليه سوى 3 أشهر، وبعدها تركه للشارع حيث كان ينام في الحدائق العامة بعيدا عن أعين الشرطة. فلجأ للمركز الإسلامي، ولكن المركز لا يملك مكان للاقامه فكان يأخذ بطانية ويفرشها داخل احد أكياس القمامة السوداء الكبيرة لينام فيها، ثم يأتي النهار ليستقل أتوبيس ميلانو الدائري وينام فيه.

واجه محمد الكثير من المشاكل مع تجار المخدرات ولكنه لم ينزلق إلى هذا الطريق رغم احتياجه للمال، كما يقول شقيقه محمود. وفي النهاية تعرف على أحد المصريين الذي ساعده في استخراج أوراق، وعمل الاقامة عند أحد المحامين مقابل أن يسدد له المال الذي دفعه عندما يعمل. وبالفعل ظل يعمل عند الرجل لفترة وهو الآن بعد 5 سنوات مازال يسدد في الديون ويعمل في مجال المعمار، حسبما يقول محمود.

نعيمه لم تفقد الأمل

رغم ما سمعت عنه من حوادث غرق للمراكب التي تنقل المهاجرين غير الشرعيين فإن نعيمه لم تفقد الأمل وتقول “لم اعد أفكر في شيء سوي عودة ابني الذي طال انتظاره ولم اسمع أخبارا عنه منذ عام كامل. نعم أخطأت حينما استجبت لرغباته ولكنه القدر”. وتتتسائل نعيمه في صمت هل ستري ابنها مرة أخري أم ان اللقاء سيطول انتظاره هكذا حدثنا الوالد وأضاف بأنها تقول أحيانا “ليتني أري جسده فقط وإن كان ميتا”.