من يريد أن يحول برقة إلى عامل سلبي يخسر التاريخ والمستقبل.. وعندما نقول أن ليبيا رقم غير قابل للقسمة فنحن نرددها لأن تاريخ ليبيا عموما وبرقة خصوصا مبنيٌّ على هذه الفكرة التوحيدية.

من يريد أن يحول برقة إلى عامل سلبي يخسر التاريخ والمستقبل.. وعندما نقول أن ليبيا رقم غير قابل للقسمة فنحن نرددها لأن تاريخ ليبيا عموما وبرقة خصوصا مبنيٌّ على هذه الفكرة التوحيدية.

ليس هناك إقليم أو منطقة في ليبيا تضم هذا الخليط المتجانس غير برقة. من شرق سرت حتى مساعد ومن البحر حتى التخوم السودانية التشادية يمتد هذا الخليط السكاني المندمج من القبائل: حسون وأولاد سليمان ومقارحة وقذاذفة وفرجان ومغاربة وزوية ومجابرة وأواجلة وتبو وفواخر وعريبات وجوازي وعواقير وقطعان وقطارنة وسعيط ومشيطات وعرب مصراتة وورفلة وعرب الزاوية وزوارية وأولاد شيخ ومسلاتية وتراهنة وغراينة وورشفانة وعرفة وعوامّة ومنفى ومسامير ودرسة وعبيد والتراكي وعيت حمد وبراعصة وحاسة وتواجير وعبيدات وعيت فايد وشهيبات و حوتة وشواعر وحبون. هذا الخليط البشري متجانس ومتجاور ومتصاهر. أنا شخصياً مغربي، أخوالي ترهونة، أنسبائي ورفلة وعواقير مصراتة. إضافة إلى ذلك فإن الهجرة العربية التي قدمت إلى برقة قد اختلطت بقبيلة لواتة البربرية وشكلت في بعض الأحيان نسيجاً انثروبولوجياً جديداً.

كيف يفكر برقاوي واحد في التقسيم؟ من يردد هذه المعزوفة المهلكة للعقول هو من يريد تقسيم برقة ومن ثم ليبيا. الذين يرددون أن في برقة بادية وحضر.. إن بادية برقة حضر وحضر برقة بادية..

بعد انتفاضة طلاب بنغازي عام 1964 حاولت بعض مفاصل النظام الملكي استخدام هذه الورقة عبر موجة تأييد للنظام، وتحريض للقبائل على بنغازي فبعث المرحوم عبد القادر العلام برقيته الشهيرة التي بثت من إذاعة بنغازي وأرددها الآن من الذاكرة “نحن قبيلة العبيدات لدينا ستون ألف مقاتل سوف يدافعون عن بنغازي”.

ولا زلنا نذكر وقفة العواقير على لسان حال شيخهم الكبير عبد الحميد العبار. عندما جاء القذافي إلى مدينة الأبيار في نيسان/ أبريل 1977 واصفاً بنغازي بأنها جزء من وطن العواقير، وطالبهم بالزحف عليها. قال لهم رفيق عمر المختار “البناغزة نسايبنا وخوال عيالنا.. وما نريده منك هو الدستور..من يريد إخفاء هذا التاريخ بالغربال”..

مسألة برقة هي العدالة وليس النفط أيها الناعقون. فاحتياطات النفط المحققة الكبيرة هي في الجنوب والجنوب الغربي أو ما يعرف بحوض مرزق. والنفط القابع في حوض سرت والسرير (الشرق والجنوب الشرقي) قد استنفذ وأٌرهق.. فلا تحدثونا بني نفط على نفط لا تملكه برقة بل عن عدالة افتقدتها طويلاً.

عندما قامت دولة برقة (التي قامت بناءً على دستور 1951) كان رئيس وزرائها برقاوياً كرغلياً ورئيس مجلس نوابها برقاوياً كرغلياً. وانتهت دولة برقة ولم يرأسها أحد من أبناء باديتها.. و من خمس وزارت شُكلت أثناء النظام الاتحادي (الذي بدأ مع دستور عام 1962) كان هناك رئيس وزراء واحد من برقة هو مصطفى بن حليم، واثنان من مصراتة وواحد من الجبل الغربي وواحد من فزان. فهل كان الحكم الاتحادي حكماً برقاوياً؟

أنا أدعو لوقفة مع النفس ومع التاريخ ومع الإنصاف، وأدعو الأقلام المنتقدة الصادقة وليست الناعقة أن تنظر إلى ظروف هذه الدعوة (الدعوة إلى الفيدرالية) في سياق الفشل الذي نعانيه من جراء إخفاق الدولة في فرض هيبتها و عدالتها.. وفي النظر من زوايا عديدة:

• عدم قدرة الدولة على فرض هيبتها واستمرارها في دعم تشكيلات مسلحة يبلغ تعدادها عشرات الآلاف.. أُنفق ولا يزال ينفق عليها المليارات رغم معرفة الثوار الحقيقيين بعدد من حمل السلاح وقاتل من أجل الثورة، وهو رقم لا يتجاوز الثلاثين ألفاً اذا لم نبالغ.. ولم تكشف الجهات المختصة حتى الآن عن الأعداد الحقيقية للشهداء والجرحى الحقيقيين والمفقودين..

• استمرار المركزية المقيتة والسماح لمن تبقى من نظام القذافي بإعادة إنتاج أنفسهم تحت شعارات ثورة 17 فبراير، بينما استهدف قانون العزل السياسي بعضاً ممن قارعوا النظام وقدموا لثورة 17 فبراير خدمات جليلة..

• فشل الدولة في الإثبات الفعلي بأن لها رغبة حقيقية في القضاء على المركزية.. وترددها في إقرار وتنفيذ نظام حكم محلي فعلي وغير صوري.

• الكيل بمكيالين فيما يتعلق بالتعامل مع المناطق المختلفة.. ففيما يُغض الطرف عن العديد من التصرفات السياسية والميدانية لبعض المناطق.. يتم تجريم مناطق أخرى وتهديدها عبر وسائل الإعلام الحكومية كما هو التنديد المستمر لأنصار الفيدرالية.. ومن يطالبون بحقوقهم..

• إعطاء التشكيلات العسكرية غطاء شرعياً وهمياً سمح لها بتجاوز القوانين وممارسة سلطات القبض القضائي وإدانة المتهمين دون محاكمة والتشهير بهم علناً..

• الوقوف موقف المتفرج من الكوارث البيئية التي تحل بالطبيعة، كما حدث في غابات الجبل الأخضر ومسلاتة..

• الإسراف المالي الفاحش فى الإنفاق الاستهلاكي وغض النظر عن التحقيق في إمكانية وجود فساد مالي منذ فترة المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي حتى الآن.. ويجب أن يشمل ذلك كل الأموال التي أنفقت على الأفراد والمؤسسات والأذرع العسكرية والأمنية والمنح والمكافآت.. كما يجب مطالبة كل مسؤول سياسي أو عسكري أو أمني أو قائد ميداني بالكشف عن ذمته المالية وما يملكه داخل ليبيا وخارجها..

• البطء المنهجي لدى المؤتمر الوطني العام في إنجاز المهمات التي أوكلها له القانون وثقة الناخبين في الانتهاء من إنجاز الدستور..

• غض النظر عن الممارسات التي ترتكبها بعض التشكيلات خارج نطاق القانون مثل التدخل في العملية التعليمية وفرض أنماط اجتماعية بعينها..

• عدم تفعيل القضاء وتطهيره ليكون بالفعل سلطة ثالثة تحكم بالعدالة والإنصاف..

• عدم إصدار قانون للإعلام والمصنفات الفنية تحدد بموجبه الآليات القانونية لمحاسبة الإعلام على أية مخالفات قانونية تجاه حقوق الناس وأعراضهم.. وتهيء الإعلام ليكون السلطة الرابعة..

• عدم ضبط بعض المنابر الدينية كخطباء المساجد واستخدام بعض المتطرفين لها في بث أفكار تكفيرية لا تتسق والدعوة الوسطية التي جبل عليها مجتمعنا الليبي المسلم..

كل المشار إليه أعلاه نقاط محددة يجب أن تحل لبدء وفاق وطني حقيقي.. إنني أعتقد جازماً أن الخيار الاتحادي هو خيار وطني بامتياز، وهو ليس خياراً انقسامياً او انفصالياً إذا ما توقفنا جميعاً عن الاستفزاز وروح الاتهامات.. واعترفنا أن الشراكة تحتاج لوجود أكثر من طرف..

يبقى أن أقول كلمة للفدراليين: التحدي الحقيقي أمامكم هو إثبات أن ما تنادون به هو حق برقة، لا يكون إلا باستفتاء سكان برقة على حق تمثيلكم لهم…

وبعد ذلك لا مفر من جلوس الفرقاء على طاولة الحوار أو الصراع.. وحدة ليبيا ملزمة وسوف نصل إليها إما بالحوار وإما بالصراع.. وحتى ذلك الحين ليتوجه الناعقون إلى قناة “ليبيا الوطنية” فهي كانت وما زالت قبلة “الندابين”..