تتفق أغلب الأطياف السياسية التونسية، وكذلك خبراء القانون الدستوري، على حصول تقدم نوعي في المسودة الأخيرة للدستور مقارنة بالمسودتين السابقتين. غير أن هذا لم يمنع بعضهم من الإشارة إلى وجود بوادر تغول برلماني سيكون ترسيخا لتوجه تريد ان تؤكده الأغلبية الموجودة داخل المجلس الوطني التأسيسي.

الذين استحسنوا مسودة الدستور الجديد الذي قدمه رئيس المجلس الوطني التأسيسي التونسي مصطفى بن جعفر مطلع الشهر الجاري اعتبروه يستجيب لتطلعات الشعب ويكرس المعنى التوافقي بين الاحزاب التونسية.

تتفق أغلب الأطياف السياسية التونسية، وكذلك خبراء القانون الدستوري، على حصول تقدم نوعي في المسودة الأخيرة للدستور مقارنة بالمسودتين السابقتين. غير أن هذا لم يمنع بعضهم من الإشارة إلى وجود بوادر تغول برلماني سيكون ترسيخا لتوجه تريد ان تؤكده الأغلبية الموجودة داخل المجلس الوطني التأسيسي.

الذين استحسنوا مسودة الدستور الجديد الذي قدمه رئيس المجلس الوطني التأسيسي التونسي مصطفى بن جعفر مطلع الشهر الجاري اعتبروه يستجيب لتطلعات الشعب ويكرس المعنى التوافقي بين الاحزاب التونسية.

والذين انتقدوا مشروع الدستور المنتظر نبهوا الى وجود صيغ غامضة وضبابية في التوطئة  وفي طبيعة النظام السياسي ومدنية الدولة ودور الدين في المجتمع . كما اعتبروا ان باب الاحكام الانتقالية الوارد فيه يمهّد لإطالة أمد الفترة الانتقالية ويتضمن تعطيلا لعمل المحكمة الدستورية.

وفي حين يستعد نواب المجلس الوطني التأسيسي التونسي لمناقشة مسودة الدستور الجديد بفصوله الـ 146،  تواصل مكونات المجتمع المدني من خبراء القانون الدستوري وسياسيين تنظيم اللقاءات والندوات لإنارة الرأي العام حول النقاط الخلافية الواردة في مشروع دستور تونس القادم.

مدنية الدولة ومكانة الدين في المجتمع

يؤكد خبراء القانون الدستوري امثال عياض بن عاشور وقيس سعيد على أن طبيعة الدولة في مسودة الدستور الجديد غير واضحة وغير محددة بشكل جيد.

اذ يمكن ان تستنتج الدولة الدينية حين تقرأ في التوطئة “تأسيسا على قيم الاسلام” و”انتماؤنا الثقافي والحضاري للأمة العربية الاسلامية” و”التكامل مع الشعوب الاسلامية”. وتستطيع ان تستنتج أن الدولة مدنية حين تقرا في التوطئة نفسها  “تأسيسا لنظام ديمقراطي جمهوري تشاركي”.

هذه القراءة المزدوجة لطبيعة الدولة في مسودة الدستور اثارت العديد من التوجسات من عودة الاستبداد المغلف بالدين مما سيمثل تهديدا صارخا للحقوق والحريات المكتسبة بعد ثورة 2011.

فطبيعة الدولة حسب ما ضبطه الفصل 141 ينص على ان “الاسلام هو دين الدولة”، في حين ان الاسلام هو دين تونس وغالبية المجتمع، وبالتالي فان هذا يمكن ان يغلب رؤية على رؤية اخرى.

ويحتوي مشروع الدستور على تناقض آخر بين اعتبار الدولة راعية للدين وهي من يتكفل بحماية المقدسات، وفي الوقت نفسه يتم التنصيص على حرية الضمير.

اضافة الى ذلك يشير العديد من الحقوقيين والسياسيين الى وجود مناورة واضحة من الحزب الاغلبي داخل المجلس الوطني التأسيسي (حزب النهضة) عند التنصيص على تحييد المساجد من “التوظيف الحزبي” وليس التوظيف السياسي، وهو ما اعتبرته احزاب المعارضة نية مبيتة لاستعمال دور العبادة في حشد مرتاديها ضد خصوم حركة النهضة.

الحقوق والحريات

يؤكد جميع المطلعين على مسودة الدستور الاخيرة انها تضمنت العديد من المكاسب في مجال الحريات والحقوق، مقارنة مع المسودتين السابقتين، غير ان هذا لا ينفي وجود قيود تحدد هذه الحريات من قبيل “المحافظة على سمعة المواطنين وأمنهم وصحتهم” (الفصل 30).

كما ان الفصل 33 لم يضبط أي معايير لما يجب ان يقيد المشرع عند وضعه للقوانين المنظمة للانتخابات وعدم اعتبار المعارضة السياسية مؤسسة.

من جهة اخرى، وعلى الرغم من الاتفاق على المحافظة على مكاسب المرأة التونسية ومواصلة صيانة مكانتها التي اكتسبتها منذ صدور مجلة الاحوال  الشخصية مطلع الاستقلال سنة 1956 وخاصة تساويها مع الرجل في كل الحقوق و الحريات، إلا ان تفسير طبيعة الدولة بالأقرب الى الدولة الدينية اشعل الجدل في البلاد ومنح معارضي الاغلبية الاسلامية في المجلس فرصا لكشف ما يعتبرونه نيات مبيتة لدى الاسلاميين لتحطيم المكتسبات الحداثية التي حققها التونسيون طوال اكثر من نصف قرن.

اما فيما يخص حرية التعبير فقد ذهب العديد من مكونات المجتمع المدني على غرار النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين الى اعتبار الفصل 124 الوارد في مشروع الدستور والذي ينص على احداث هيئة للإعلام توكل لها مهمة تعديل قطاع الاعلام بكافة مكوناته ومراقبة الحق في حرية التعبير والنفاذ الى المعلومة، بدعة لا مثيل لها في الانظمة الديمقراطية.

كما ان اعتماد عبارات فضفاضة في الفصلين 31 و30 من مشروع الدستور المتعلقين بحق النفاذ الى المعلومة وبحرية الراي والتعبير، لا تستعمل عامة الا في دساتير الانظمة الشمولية لخنق حرية الصحافة.

ويتخوف الاعلاميون والمدافعون عن الحريات من التفسيرات والتأويلات التي يمكن ان تصاحب الصياغة الفضفاضة للنصوص الخاصة بحرية الاعلام والتعبير.

وهنا وجب الاشارة الى ان الحوار الوطني الذي احتضنته رئاسة الجمهورية التونسية أو منظمات وطنية، نهاية شهر أيار/ ماي الفائت، قد  أسفر عن توافقات بشان اقرار الحق النقابي وحق الاضراب دون قيود في النسخة الاخيرة لمشروع الدستور. ولكن لم يتم مناقشة مكبلات حرية الاعلام والتعبير.

وفي التوطئة المصاحبة لمشروع الدستور لم يتم التنصيص صراحة على الالتزام بحماية الحق في حرية التعبير وفقا لمقتضيات الفصل 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي صادقت عليها الدولة التونسية في آذار/ مارس 1961. وهو ما اعتبره الاعلاميون – لو تم – قطع طريق امام إحياء القيود التي اقرها دستور تونس لسنة 1959 والتي صنفت الدولة التونسية ضمن قائمة الدول الاكثر عداء لحرية الصحافة والتعبير في عهد النظام القائم قبل الثورة.

نظام سياسي غريب

المتمعن في مشروع الدستور باستطاعته التفطن الى أن النظام السياسي المرتقب ليس الرئاسي المعدل ولا البرلماني المعدل، وانما هو النظام المجلسي، وهو اخطر النظم على المجتمع، اذ يجعل الحكومة تحت سيطرة مجلس النواب بالإضافة الى ان هذا المجلس لايمكن حله الا في حال العجز عن تشكيل حكومة.

وترفض احزاب المعارضة من داخل المجلس الوطني التأسيسي ومن خارجه، النظام  السياسي المنصوص عليه داخل مشروع الدستور وتعتبره عبارة عن محاصصة في التكليفات والتعيينات والصلاحيات محصلتها النهائية منظومة تنفيذية للدولة تتسم بغياب التجانس، صيغت لا فقط  على قياس الاحزاب بل وحتى على قياس اشخاص.

ولكن حتى ولو اتاح الباب الرابع من مشروع الدستور الجديد صلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية التي تكاد تكون تشريفية حاليا، فانه ظل حسب المنتقدين مشروعا مكرسا لدولة برلمانية تحت مسمى النظام الرئاسي المعدل.

واعتبر معارضو النسخة الاخيرة أن الاضافات التي تم اقرارها بخصوص تمتع رئيس الجمهورية ببعض الصلاحيات التنفيذية ليست الا استجابة لأصول التكتيك السياسي واسترضاء للأحزاب الحليفة لحركة النهضة (الحزب الأغلبي داخل الترويكا الحاكمة) أو الاحزاب التي من المنتظر ان تتحالف معها.

الغالب على مسودة مشروع الدستور وجود تجاذب معلن في تعريف صلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وهذا استمرار لما نراه حاليا من تنازع بين قطبي السلطة التنفيذية (الرئاسة والحكومة) أدى أحيانا إلى شلل وإلى صراعات مفتوحة وحروب التصريحات “الحزبية”.

الأحكام الانتقالية والسلطة القضائية  

اعتبر الخبير في القانون الدستوري عياض بن عاشور باب الأحكام الانتقالية في غير موضعه لتضمنه أمورا ليست من الأحكام في شيء بل هي أحكام حتمية مدرجة في صلب الدستور المنتظر لتونس.

وقد رأى بن عاشور أن الأحكام الانتقالية بدت وكأنها “دستور صغير” جديد قد يصبح سائدا لمرحلة لا يعرف لها زمن محدد.

ودعا في هذا الصدد نواب المجلس الوطني التأسيسي إلى عدم المصادقة على باب الأحكام الانتقالية نظرا لما فيه من تكريس لإطالة أمد فترة انتقالية جديدة ومن تعطيل عمل المحكمة الدستورية باعتبارها -الاحكام الانتقالية- نصت على عدم إمكانية طعن المحاكم والأحزاب في دستورية القوانين المنبثقة عن المجلس الوطني التأسيسي إلا بعد ثلاث سنوات.

اما المحكمة الدستورية فان تحديد تركيبة ثلث اعضائها من غير المختصين من رجال دين وسياسيين أثار الكثير من الجدل باعتبار عدم اختصاصهم القانوني واقتصار دورهم على خدمة المصالح الحزبية والسياسية بما لا يتماشى مع مقتضيات دولة القانون والمؤسسات.

وبالنسبة لباب السلطة القضائية فقد اعتبر هذا الباب بدوره ينطوي على بعض التناقضات حيث يؤكد على استقلالية هذه السلطة من ناحية في حين تضم تركيبة المجلس الاعلى للقضاء أغلبية غير منتخبة.

ان احتواء مسودة مشروع الدستور على كل هذا الخلط السياسي والقانوني يجعلها تبدو خطوة غير مساعدة على تسريع تحقيق الضمانات المرجوة للخروج من مرحلة الانتقال الديمقراطي الى مرحلة الدولة المؤسساتية المتماسكة .

فعندما تسيطر الحسابات السياسية والتجاذبات الحزبية على صياغة دستور جديد يفترض ان يستجيب لانتظارات الشعب التونسي ويقطع مع الماضي ويؤسس لديمقراطية صلبة وناجحة، يصبح قول أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد بان “الدستور الحقيقي لتونس هو الذي كتبه الشبان على الجدران في ثورة2011”.