أكثر من 20 عاما مرت علي رحيله من قريته، تم إدراجه خلالها ضمن قوائم الإرهابيين بعد ضلوعه في جريمة محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995. 

أكثر من 20 عاما مرت علي رحيله من قريته، تم إدراجه خلالها ضمن قوائم الإرهابيين بعد ضلوعه في جريمة محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995. 

والدته ما زالت تنتظره مطلة من نافذة منزلها المتواضع كلما سمعت صوتا يهمس في الشارع. إنها والدة عبدالكريم النادي أحد الثلاثة المتهمين بمحاولة اغتيال الرئيس المخلوع. كان ابنها ضحية للفكر المتشدد الذي استشرى بقرية نجع دنقل التابعة لمركز أرمنت، 20 كيلو مترا جنوب غرب الأقصر (690 كيلو مترا جنوب القاهرة). فكر انتشر منذ ثمانينات القرن الماضي، وأدى إلى معاقبة القرية واستبعادها من مشاريع التنمية، كما يرى أهلها.

من التصوف إلى التشدد

هنا حيث الفقر المدقع وأجواء القرية الريفية المعدمة انتشر فكر الجماعة الإسلامية منذ الثمانينات بفضل إقامة عدد من قيادات الجماعة الإسلامية وسط أهالي القرية وبدئهم النشاط التعبوي والدعوي بين الشباب الصغار.

وبرغم التدين الشديد كإحدى السمات البارزة بين أهالي القرية إلا أن غالبيتهم كانت تنتمي للطرق الصوفية التي يعرف عنها نبذ العنف. الا أن قيادات الجماعة تمكنت من تبديل فكر بعض الشباب وصولا إلى أقصى درجات التطرف، حتي اندفع الكثير منهم للتورط في ارتكاب العديد أعمال وصفت بالإرهابية في مصر وخارجها.

تروي أم عبد الكريم التي ترك الزمن علي وجهها خطوطه وتعرجاته قصة انتماء ابنها للجماعة الإسلامية قبل عقدين من الزمن، قائلة إن عبدالكريم بدأ علاقة صداقة قوية جمعت بينه وبين القياديان بالجماعة الإسلامية محمد دندراوي ورفاعي أحمد طه _ رئيس مجلس شوري الجماعة السابق _ في القرية في مطلع التسعينات، وظل الاثنان يترددان على عبدالكريم في منزله وأقنعاه بأنه أحد رجال الإسلام الذين سيدافعون عن دينهم ويحيون فريضة الجهاد مجددا “لإقامة الدولة الإسلامية” وإعادة “مجد الإسلام”.

بعدها سافر عبد الكريم إلى للسعودية فور انهاءه للخدمة العسكرية بحثا عن فرصة عمل بعد أن ضاق به الحال في بلده، ومن حينها انقطعت أخباره حتى سمعت الأم بنبأ تورطه في محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك عن طريق الصحف ولم تعرف شيئا من أخباره حتى الآن سوي أنه ما زال مسجونا في سجون أثيوبيا إثر صدور حكم بالمؤبد ضده في هذه القضية.

الجماعة الإسلامية لا تزال حاضرة

هل تغير حال القرية بعد الثورة؟ جولة في المنطقة تكشف عن حضور مظاهر التشدد. فرغم المراجعات الشهيرة التي أعلنتها قيادات الجماعة مبدية ندمها عن “مرحلة الدم والنار” في الثمانينيات والتسعينات، إلا أن بعض تلك القيادات ما زال فخورا بتلك المرحلة، مثل أحد شيوخ الجماعة الإسلامية الذي كان يلقي درسا في مسجد الرحمن بوسط مدينة أرمنت علي بعد نحو 2 كيلو مترا من نجع دنقل، حيث قال صراحة “ليت الحركة الإسلامية ما أخمدت سيفها” .

أحمد فؤاد الشاب الثلاثيني وأحد أعضاء الجماعة الإسلامية بقرية نجع دنقل قضى نحو 11 عاما داخل السجون المصرية منذ أن كان عمره 19 عاما، حتى خرج من السجن في عام 2005 ليلتحق بعد ذلك في وظيفة محفظ قرآن بإحدى المعاهد الأزهرية بأرمنت. فؤاد يدافع عن الجماعة حتى أنه برر اندفاعها نحو العنف خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات بأن ذلك نتاج طبيعي للعنف التي مارسته الدولة تجاه الجماعة.

ومازال فؤاد يحرص هو ومجموعه من أصدقائه علي حضور اللقاء الأسبوعي للجماعة الذي يعقد كل أربعاء بمسجد الرحمن في وسط مدينة أرمنت. وكان لهذا اللقاء فضل كبير في نشر فكر الجماعة بين شباب مدينة أرمنت حتى داهمته الشرطة في عام 1994 وقبضت علي جميع من فيه وكان عددهم آنذاك نحو سبعين شابا، إلا أنه بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير عاد هذا اللقاء مجددا وينقل ما يدار باللقاء عبر مكبرات الصوت لمن هم خارج المسجد.

عقاب جماعي

أم عبدالكريم النادي تحمل القياديين محمد الدندراوي وطه رفاعي أحمد مسؤولية ضياع مستقبل ابنها وغيره من شباب القرية بنشر “الأفكار المغلوطة” بينهم قائلة “دمروا مستقبل ابني وزملائه، وعادوا هم بعد الثورة يتمتعون بنعيم الحياة وسط أزواجهم وأبنائهم فيما ظل ابني ورفاقه وحدهم يدفعون الثمن”. مشيرة إلى عودة القياديين إلى قريتهم بعد الثورة.

والواقع أنه ليس فقط “عبدالكريم” ورفقائه فقط هم من دفعوا ثمن الفكر المتطرف، ولكن قرية نجع دنقل بأكملها دفعت الثمن بحرمانها من الخدمات الأساسية عمدا من قبل الحكومات المتعاقبة خلال عهد النظام البائد، كما يرى أهلها. فلا مدارس سوي مدرسة واحدة للمرحلة الإبتدائية مبانيها متهالكة ولا مستشفي أو وحدة صحية يتعالج فيها المرضي ولا حتى طرق ممهدة أو صرف صحي.

حرمان القرية الفقيرة البالغ عدد سكانها نحو 5 آلاف و500 نسمة، ويعمل غالبيتهم في الزراعة، من أبسط الحقوق الآدمية “جاء كعقاب لاعتناق عدد من أفراد القرية لفكر الجماعة الإسلامية، لا سيما بعد تورط بعضهم في محاولة اغتيال مبارك بأديس ابابا”، على حد ما قاله محمد النادي شقيق عبدالكريم النادي.

ترقب

والدة النادي المكلومة التي تنتظر ابنها الغائب الحاضر في ذاكرتها لم يبقَ أمامها سوي أن تناشد رئيس الجمهورية محمد مرسي ووزير الخارجية بالبحث عن ابنها في السجون الأثيوبية وأن يعيده ليقضي ما تبقي له من مدة السجن في مصر حتي يتسنى لها رؤيته قبل أن تفارق هي الحياة.

وحتى تنقشع الغيوم من سماء البلاد، ويتضح المسار السياسي الذي ستسير فيه، يبقى الترقب مسيطرا على أهل نجع دنقل، فهل ستعود الجماعة الإسلامية إلى نشاطها كسالف عهدها، أم تجد القرية مكانا لها على قائمة التنمية والتطوير؟