“مرت الأيام والسنين ثقيلة وكئيبة، وكانت الحياة قاسية وأنا أنتظر الموت مع كل فجر جديد. كان الأمر قاسيا حين أتخيل كيف سيقطع رأسي عن جسدي أو أصعق بالكهرباء”. هكذا تحدثت فائزة “لمراسلون”، عن قصة انتظار للموت لأكثر من عشر سنوات.
وكان قد حكم على فائزة بالإعدام سنة 2000، وذلك بعد أن وجهت لها تهمة القتل العمد لشابين قاما باغتصابها. وتقول فائزة أنها صدمت في البداية “لأن مجرد سماع كلمة إعدام، كان مرعبا”.
حكم الاعدام نزل كالصاعقة
“مرت الأيام والسنين ثقيلة وكئيبة، وكانت الحياة قاسية وأنا أنتظر الموت مع كل فجر جديد. كان الأمر قاسيا حين أتخيل كيف سيقطع رأسي عن جسدي أو أصعق بالكهرباء”. هكذا تحدثت فائزة “لمراسلون”، عن قصة انتظار للموت لأكثر من عشر سنوات.
وكان قد حكم على فائزة بالإعدام سنة 2000، وذلك بعد أن وجهت لها تهمة القتل العمد لشابين قاما باغتصابها. وتقول فائزة أنها صدمت في البداية “لأن مجرد سماع كلمة إعدام، كان مرعبا”.
حكم الاعدام نزل كالصاعقة
وتضيف “لقد ظلّ صوت القاضي وهو ينطق بحكم الإعدام يصمّ أذناي، وكلما سمعت صدى ذلك الحكم أصاب بنوبة من الصراخ والبكاء”. تصمت لحظة، كمن يستجمع أنفاسه “عرفت انّي ودّعت الحياة للأبد ودّعت أصدقائي، عائلتي وإخوتي لن أراهم مجددا، لن أرتدي الفستان الأبيض الذي طالما حلمت به في مراهقتي”.
لقد وصل الشك بفائزة إلى ربط كل ما يحدث حولها بالإعدام. حتى ان عدم رؤية سجينة لفترة ما، قد يخلف لديها شعورا بالمرارة والتعاسة. تقول :”لقد وضعوا خطا احمر على الزنزانة المجاورة لنا ثم اختفت صديقتنا من تلك الزنزانة، لقد رأيتهم يأخذونها في الصباح الباكر ولم أرها مجددا”.
وتواصل “فائزة” أستيقظ لمجرد سماع صوت يصدر بالجوار، أسمع خطوات أعوان الحراسة وتبدو وكأنها تتقدم نحوي ،لا يهدأ لي بال الا عندما تمرّ بعيدا”. وذات يوم توجهت الى المسؤول وطلبت منه ان يسرعوا وينفذوا حكم الإعدام “لأني لم أعد أرغب في مزيد الانتظار. لقد مللت تلك اللحظات يجب ان أحسم الأمر فأنا ميتة لا محالة، وما فائدة العذاب وطول الانتظار؟”.
ابتسمت بمرارة وتاهت بين الذكريات الأليمة بعض اللحظات، وقالت “ذات يوم رأيت دهّانا يضع خطّا أحمر تحت الباب السفلي لزنزانتي، صرخت وقلت لصديقتي سيتم إعدامي نعم سيعدموننا الواحدة تلوى الأخرى”. مضيفة لقد شعرت انهم تلقّوا الأوامر لتنفيذ حكم الإعدام، وبعد لحظات من الرعب أحسست براحة غريبة، أخيرا ستنتهي معاناتي”.
وتضيف “ذهبت إلى المسؤول في السجن وطلبت منه تسريع تنفيذ الحكم، لكنه قال لي ان النساء في تونس لا ينفذ فيهن حكم الإعدام. وأن بلادنا لم تطبق حكم الإعدام منذ عدة سنوات وبالتالي قد أضطر الى البقاء مدى الحياة في السجن ولن أعدم”.
عقاقير مهدئة من أجل النوم
لم تعد فائزة قادرة على النوم إلا بعد تناول عقاقير مهدئة “لقد تحولت الى فتاة عصبية وأثور لأتفه الأسباب وهو ما حتّم خضوعي إلى العلاج في مستشفى “الرازي” للأمراض العصبية والنفسية” هكذا قالت .
مرّت السنوات ولم يعد للزمن أي معنى، وكانت فائزة تحاول تقبل الواقع وبدأت تقنع نفسها انها يجب ان تستسلم وتترك امرها للقدر.
جاءت الثورة في 14 جانفي/يناير 2011، وكانت بمثابة القدر الذي تنتظره فائزة. كانت السجينات يتابعن ما يحدث في الخارج وتصلهن أخبار الثورة وانهيار النظام وتشكيل حكومة جديدة ثم حكومة ثانية. ووصلت أخبار عن تنظيم انتخابات أفرزت حكاما كان بعضهم محكوما عليه بالإعدام.
“كانت السجينات يتابعن التطورات بفرح بالغ، كدن يطرن خارج أسوار السجن من السعادة، فالأحداث الجديدة بعثت أملا كبيرا في الجميع، أما أنا فأتذكر أنني كنت مذهولة، وربما سعيدة”. هكذا علقت فائزة على الثورة.
“كنت أنتظر الموت بشغف ويأس أيضا، لكن الامل تسلل إلى نفسي دون استئذان. كان هذا الامل بمثابة عدوى تسللت من سجينات متهورات وحالمات، أطلقن العنان للرقص والفرح بعد انتخاب المنصف المرزوقي (الناشط الحقوقي السابق) رئيسا للجمهورية”.
تصمت فائزة لحظة لتتنفس بعمق ثم تضيف “لم يخب الظن ولم يطل الانتظار فقد قرّر الرئيس الجديد تحويل أحكام الإعدام الصادرة في شأن كافة المحكومين إلى المؤبد، يومها عمت الزغاريد أرجاء الزنزانات”.
إلغاء عقوبة الإعدام صدمتني
تصمت، تبكي وتبتسم في آن واحد. وتقول أن الخبر كان بمثابة الصدمة، فهي قد هيأت نفسها فقط لاستقبال الإعدام، ولم تضع في الحسبان فرصة للحياة.
تم الحط من عقوبة فائزة من الاعدام إلى المؤبد، ثم الحدّ من العقوبة لتصبح 30 سنة فقط. مرت منها الآن 13 سنة، “فجأة أصبح للوقت أهمية ولكلمة المستقبل معنى”، هكذا علقت.
ويمكن لفائزة ان تحصي ما تبقى لها من سنوات لترى العالم الخارجي بعد ان يئست من الخروج، وكما بقية المحكومين بالإعدام، منعت من زيارات الأهل وسلة الأكل التي تجلبها العائلة. مضى زمن طويل لم تتذوق فيه فائزة طعام والدتها.
بقدر ما كانت مواعيد الزيارة مفرحة للآخرين فقد كانت كئيبة بالنسبة لفائزة لأنها تشعرها باشتياق كبير إلى العائلة، خاصة وقد توفي والدها وهي في السجن. “لقد كنا منسيين ومتروكين ولكن الآن وبفضل الثورة صار يسمح لنا برؤية أهلنا وسؤالهم عن أحوال القرية ومتابعة ما يحصل من مستجدات في العائلة.”
وتستغرب فائزة كيف أن الذكريات الجميلة هجرتها طوال الفترة الماضية، والآن عادت ربما بفضل زيارة العائلة. تصمت لحظة، يكفهر وجهها وتقول “وحدها تلك الذكرى المشؤومة لم تفارقني للحظة”. إنها ذكرى أواخر شهر ديسمبر/ كانون الثاني 1999، وقتها كان العالم يستعد لاستقبال القرن الحادي والعشرين، ولم تكن فائزة، حينها، تعلم أنها تستعد لحدث سيقلب حياتها رأس على عقب.
تعود فائزة إلى الذاكرة لتسرد الحادثة التي غيرت مجرى حياتها. في نهاية كانون الثاني كان عمرها 24 سنة، وقتها قدمت إلى العاصمة من منطقة تالة بمحافظة القصرين (غرب تونس ومن أكثر مناطقها فقرا) للبحث عن شغل.
لقاء دمر حياتي
وخلال تنقلها من وسط العاصمة إلى مصانع النسيج بالأحواز، التقت شابا عرض عليها نقلها بسيارته، ولما عرف حاجتها للشغل وعدها بالمساعدة. وتتذكر فائزة “كان وسيما ومرحا”. رافقت فائزة الرجل إلى منزل ريفي بأحواز العاصمة، بعد أن وعدها بأنها ستلتقي هناك صديق له، صاحب مصنع، لكن النهاية كانت عملية اغتصاب جماعية ووحشية من قبل الشاب وصديقه كما قالت.
تنتابها نوبة من البكاء والسعال. تصمت للحظة لالتقاط أنفاسها. ثم تضيف بعصبية “اغتصباني بشكل وحشي، وعنفاني أيضا. ومرّ أمامي شريط من الأحداث، الشيخ الذي تحرّش بي وحاول اغتصابي في طفولتي، وقساوة إخوتي الذكور معي، فكنت أضربهما بسكين دون وعي”.
تنتابها نوبة من البكاء مجددا وتصمت. يعلمني مسؤول السجن بضرورة إنهاء الحوار. ترقبني فائزة بعينين خائفتين، كمن يطلب عونا.
تسترجع هدوءها ثم تمد يدها مصافحة، بابتسامة حزينة لتختم “لدي ما يكفي من الوقت في السجن لأعد نفسي وأدربها كيف تحيا، بعد ما قضيت السنوات الماضية في تدريبها على الموت الذي لم يأت”.