مراسلون/ ناصر كامل

استدعت الصور والكلمات والوجوه والأماكن التي طفت على سطح الأحداث “الرسمية” في الأيام القليلة الماضية، صورا وكلمات ووجوه وأماكن أخرى، واقترنوا ليشكلوا مفارقة كبرى تلخص في مشهدية بليغة التحدي الجوهرى أمام المصريين لاستعادة ثورتهم واستكمالها.   

مراسلون/ ناصر كامل

استدعت الصور والكلمات والوجوه والأماكن التي طفت على سطح الأحداث “الرسمية” في الأيام القليلة الماضية، صورا وكلمات ووجوه وأماكن أخرى، واقترنوا ليشكلوا مفارقة كبرى تلخص في مشهدية بليغة التحدي الجوهرى أمام المصريين لاستعادة ثورتهم واستكمالها.   

فاستدعت صورة الرئيس محمد مرسي، وهو يشهد الاحتفال بعيد الحصاد في قرى بنجر السكر ببرج العرب، في محافظة الإسكندرية صورة الرئيس حسني مبارك وهو يشهد نضوج المحصول الأول للقمح في مشروع توشكى وهو مشروع هدفه خلق دلتا موازية للنيل من اجل توزيع مساحة الاراضي الزراعية في المنطقة، وترافقت الصورتان لتشكلا الملمح الأول للمقارنة بين مستبدين.

المقارنة كانت فجة في تفاصيلها، فجاجة جاءت بذرتها الأولى من الإصرار الهزلي على وضع شعار رئاسة الجمهورية على المنصة الرسمية التي وقف مرسي خلفها ليتحدث إلى جمهور الحفل. تنافر مذهل في تفاصيل المشهد، فأنت في الحقل بيوم من أيام الحصاد، فلما الإصرار على البساط الأحمر والشعار؟

المبرر الوحيد لذلك هو ما ردده المصريون في الأيام الأولى لولاية مرسي، “الرجل متقمص بعمق شخصية سينمائية من فيلم “شيء من الخوف” بطولة محمود مرسي وشادية، وخاصة ذلك المشهد الذي تردد فيه شخصية عتريس وهي في حالة لوثة عقلية، “والله أنا عتريس، أنا مئة عتريس، لماذا لا تخافون”، كانت الشخصية السينمائية تلك التي شبه المصريون مرسي بها تعاني من صدمة من طغيان مستبد القرية بأهلها وبه هو أيضا، فتماهي مع شخصية المستبد وراح يقلده، لكنه يصدم حين يكتشف أن أهل القرية لا يخافونه مثلما يخافون من سيده؟

وهكذا لو وضعنا الصورتين متجاورتين سنجد أن مبارك بعد نحو عشرين عاما في الحكم يتصرف في توشكي كمستبد متمرس بيروقراطي يطور من أدائه، فيرضى ويخضع للنصائح المسربة إليه من معاونيه ومن أسرته، وبالأخص من نجله الأصغر. تحرر سيدي الرئيس في الحقل من الانضباط الرسمي، تخلى عن ربطة العنق، الناس مازالت تذكر زيارتك السابقة للموقع حين كانت الخلفية التي ظهرت أمامها رمال صفراء، اليوم الأخضر هو المسيطر فكن كأنك في نزهة في البراري، في راحة بعد تعب، تطلع للأفق، الشعب يريد أملا فامنحه وجها بتعابير الأمل، ثم يصر وزير الإعلام على ظهور الرئيس منفردا وهو ما أغضب رئيس وزرائه وقتها- الدكتور كمال الجنزوري الذي يعتبر “توشكي” ملكه فكريا وإداريا-، فيظهر مبارك وكأنه مكتشف براري ومناجم خير.

مرسي لم يكمل عامه الرئاسي الأول- وهناك من يصر على منعه من إكماله- لذلك تأتيه النصائح، أنت الرئيس، لابد أن يتذكر الناس ذلك، سنأتي بالشعار الرسمي والبساط الأحمر، لوح بيديك قليلا، سنضعك في المشهد المناسب، ورائك مستويين من حقول القمح منها مازالت خضراء ولم تنضج بعد وتلك الصفراء الموجبة للحصاد، لوح بيديك دلالة على العزم والإقدام، كن مرحا قليلا، قليلا فقط، فالضحك يميت القلب، واترك لنا الباقي.   

كتب مرسي قبل أن يذهب للحصاد على حسابه الخاص على تويتر، “أقول لكل مواطن ومواطنة في مصر نحن على الطريق الصحيح لتحقيق أول أهداف الثورة “رغيف العيش”، وأن ننتج غذاءنا بأيدينا ومن أرضنا فهذا هو التصحيح الحقيقي لأخطاء عشناها على مدى عقود”.

وقبلها بيومين كان وزير العدل، المستشار أحمد سليمان، قد قال إن لقاءه بالدكتور مرسى تناول العديد من مشاكل القضاة واحتياجاتهم، وتطورات مؤتمر العدالة، وتوقع تلبية الرئيس لكل المطالب، واستبعد اصطدامها بالمعوقات المالية، قائلا “كرم ربنا بدأ يفيض علينا، ولا نجد مكانا لتخزين محصول القمح”.

وقد سبق للمستشار أن أكد “أن وزارة العدل اتجهت لمكافحة الفساد وأهم ركن في مكافحة الفساد ليس الملاحقة فحسب بل البناء الأخلاقي للفرد”.

وبينما كانت وسائل الإعلام تتابع احتفال الحصاد وصف أهالي برج العرب ما تروج له الرئاسة والنظام الحالي من إنجازات بشأن القمح بأنه لا يعدو عملية نصب جديدة على الشعب، “الكمية مازالت نفسها، والشباب الخريجين والمزارعين نفسهم، ولا يوجد أي مجهود جديد تم بذله من قبل النظام الحالي”.

الصور والكلمات والوجوه والأماكن ترسم المشهدين، فهناك ملامح مشتركة وهناك فروق بنيوية. في المشتركات لابد أن يظهر المستبد منفردا، يخطو بمفرده على البساط الأحمر. أما الفروق فتتبدى هكذا:

المستبد المتمرس البيروقراطي متمهل حتى الملل، فقصة توشكي قديمة، تعود إلى أوائل الستينيات حيث أجري العديد من الدراسات والبرامج وخطط التنمية التي تبحث في كيفية الاستفادة من مياه بحيرة ناصر فى زراعة الوديان وتغذية الخزانات الجوفية في الواحات المصرية وخاصة الواحات الخارجة ومناطق جنوب الوادى. وتواصلت الدراسات التفصيلية، وتمت أعمال تصنيف التربة ووضعت عدة خيارات بقت محل دراسة، توجت بقيام أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا عام 1989 بالاشتراك مع معهد بحوث الصحراء بإعداد موسوعة الصحراء الغربية التى حوت فى أجزائها الأربعة العديد من المعلومات والدراسات الخاصة بالموارد المائية والأرضية والسياحية والمصادر النباتية والحيوانية والتعدينية وأنشطة السكان منذ عصر الفراعنة. ومع كل هذا، ظل المستبد بيروقراطيا حتى النخاع وانتظر عشر سنوات حتى اضطرته دوافع شخصية للظهور بصورة مكتشف البراري المتطلع للمستقبل وكأنه رجل يبني بجهد غرفة إضافية كي يزوج ابنه فيها.

أما المستبد الغيبي فمتعجل واثق في نفسه، لا يبني بيوتا في الدنيا فطموحه قصور الجنة، وهو سلطة تتلو الكلمات وتفهمها بحرفيتها، تربت على التلقين، فلذلك تعتبر هذه السلطة أن كلمة “العيش” التي تشكل الكلمة الأولى من شعار ثورة المصريين في 25 يناير 2011 تعني “رغيف العيش” وفقط. وأنها (السلطة) إذ تقول للمصريين أن محصول القمح قد زاد هذا العام بنسبة 30%، فهي تعني أن مضاعفة المحصول تحتاج إلى أربعة أعوام، فاصبروا، وهي تقول أيضا أنها لن تنتقل لتنفيذ كلمتي الشعار الباقيتين: حرية، عدالة اجتماعية إلا بعد ان تفرغ من توفير “العيش”، لكن لا يجب على أحد أن يخادع نفسه ويتصور أن ذلك مرتبط بجهدنا، أنه متوقف على “كرم ربنا، والبناء الأخلاقي للفرد”.

لا أظن أن المصريين الذين ثاروا على المتمرس البيروقراطي المستبد سيقتنعون بالغيبي المتعجل الهازل، ولن يصبروا عليه طويلا، أو هذا ما آمله على الأقل.