زيارة الرئيس المصري محمد مرسي إلى البرازيل هي زيارة غير معهودة من رئيس مصري، وتندرج في إطار مساعي النظام المصري الجديد فتح قنوات تواصل مع قوى اقتصادية لم يكن النظام السابق يضعها في حسبانه. فقبل أسابيع قليلة زار الرئيس المصري الصين والهند وباكتسان، في جولة كان عنوانها الأعرض هو الاقتصاد.

زيارة الرئيس المصري محمد مرسي إلى البرازيل هي زيارة غير معهودة من رئيس مصري، وتندرج في إطار مساعي النظام المصري الجديد فتح قنوات تواصل مع قوى اقتصادية لم يكن النظام السابق يضعها في حسبانه. فقبل أسابيع قليلة زار الرئيس المصري الصين والهند وباكتسان، في جولة كان عنوانها الأعرض هو الاقتصاد.

التوازيات بين مصر والبرازيل عديدة، منها التحول الديمقراطي البطيء من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، وزيادة عدد السكان وما يتبعها من تحديات اقتصادية كثيرة. لكن البرازيل نجحت في ثماني سنوات، هي فترة حكم الرئيس السابق لولا دا سيلفا، في علاج الكثير من هذه التحديات، من خلال حزمة من الإصلاحات والقوانين، هو ما جعلها تكون اقل دول العالم تأثرا بالأزمة المالية العالمية الأخيرة والتي وصلت ذروتها في 2008. فيما لا تزال مصر تراوح مكانها. فهل يمكن يمكن الاستفادة من التجربة الاقتصادية البرازيلية في الحالة المصرية؟

من الحكم العسكري إلى الحكم المدني

بدأ الحكم العسكري في البرازيل عام 1930 عندما تولى الجنرال “غيتويلو فارغاس” الحكم ومن بعده تعاقبت الحكومات العسكرية. ولكن في عام 1964 استولى الجيش على الحكومة بشكل كامل وتراجعت الديمقراطية والحرية وانتشرت الاعتقالات والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية داخل البرازيل.

وبدأ التحول التدريجي إلى الحكم المدني منذ منتصف السبعينيات وحتي منتصف الثمانينيات، حتى تخلصت البرازيل تماماً من الحكم العسكري عام 1985 برئاسة “خوسيه سارنى”، وتبعه عدة رؤساء مدنيين آخرهم الرئيسة الحالية “ديلما روسيف”، والتي كانت احد المعتقلين البارزين إبان الحكم العسكري.

أما في مصر فقد بدأ الحكم العسكري مع انتهاء الملكية وقيام ثورة 23 تموز/يوليو 1952 بتولي اللواء محمد نجيب للسلطة ، ثم أطاح به الرئيس جمال عبد الناصر عام 1954 حتى وفاته عام 1970 واستمد شرعية حكمه من ثورة يوليو. ثم جاء الرئيس السادات وهو من الضباط الاحرار الذين قاموا بثورة يوليو، وخلفه جاء محمد حسني مبارك عقب مقتل السادات عام 1981 أثناء العرض العسكري حتي قيام ثورة 25 كانون ثان/يناير والتي أطاحت بنظام مبارك، ليأتي أول رئيس مدني لمصر في 30 حزيران/يونيو 2012 وهو الدكتور محمد مرسي.

التحديات الاقتصادية في البرازيل

يعد الرئيس “لولا دا سيلفا” من ابرز الرؤساء في تاريخ البرازيل. تولى رئاسة البلاد لمدة ثماني سنوات (2003-2101) واستطاع خلالها تحقيق طفرة اقتصادية وسياسية.

واجه لولا تحديات اقتصادية ضخمة عند تولية السلطة تمثلت في مشكلة انخفاض قيمة الريال البرازيلي أمام الدولار الأمريكي، وارتفاع معدل التضخم، ووصول الدين الخارجي إلي 250 مليار دولار نتيجة الاستدانة المتفاقمة من الخارج. وسجل الدين المحلي نسبة 900% نتيجة الاتجاه إلى سياسات طرح سندات الدين الداخلي بفوائد مرتفعة مما شجع المستثمرين على التخلي عن الاستثمار المنتج لصالح شراء السندات الحكومية، الأمر الذي أدى إلى أزمة انعدام الثقة في الاقتصاد البرازيلي سواء من الجهات الدولية المانحة أو المستثمرين المحليين والأجانب.

وقد أصابت سياسات الانفتاح الاقتصادي التي اتبعتها البرازيل قبل عهد لولا المنتجين المحليين بخسائر فادحة مما أدى إلى مزيد من البطالة وتراجع حاد في الإنتاج المحلى ومن ثم تراجع معدلات التصدير وكذلك أيضا ارتفاع معدلات الفقر.

من ناحية أخرى انقسم المجتمع البرازيلي الذي قارب 200 مليون نسمة إلي طبقتين، الأولى عبارة عن شريحة رفيعة جدا من الأثرياء في مقابل شريحة عريضة من المعدمين، فيما تكاد تكون الطبقة الوسطى غير مرئية على الإطلاق في مشهد صارخ للتفاوت الاقتصادي وانعدام شبه كامل للعدالة الاجتماعية.

التحديات الاقتصادية في مصر

اما في مصر فقد تولى الدكتور محمد مرسي الحكم وسط أزمات اقتصادية كبيرة ولكنها أقل حدة من أزمة البرازيل، أبرزها تراجع قيمة الجنية المصري أمام الدولار الامريكي، ووصول الدين الخارجي 35 مليار دولار مع تراجع كبير في الاحتياطي الأجنبي، وسجل الدين المحلي مليار و 200 مليون جنيه بما يمثل 85% من إجمالي الناتج المحلي.

إضافة إلى استمرار طرح اذون وسندات خزانة بنسبة فائدة عالية تصل إلى 15% مما تشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانية الدولة.

وبالنسبة لوضع المجتمع المصري فلم يختلف كثيرا عن المجتمع البرازيلي سوى في عدد سكانه، حيث بلغ عدد سكان مصر 91 مليون نسمة بالداخل والخارج طبقاً لآخر احصائية للجهاز المركزي للتعبئة والأحصاء، إلا أن المجتمع المصري يتشابه مع المجتمع البرازيلي في انقسام المجتمع إلي طبقتين الاولي تزداد ثراءاً والثانية تزداد فقرا، ولذلك تبلور مبدأ العدالة الإجتماعية في مقدمة مطالب الثورة المصرية.

البرازيل تصنع المعجزة

وضعت البرازيل الخطوة الأولى لتحقيق هذة المعجزة ، وهي “برنامج التقشف والمصراحة في آن واحد”، وفيها اعتمد الرئيس البرازيلي علي شعبيته، وصارح الشعب بجميع الأوضاع الاقتصادية التي وصلت إليها البلاد، ومن ثم البدء في إجراءات التقشف لإنها الحل الأول والأمثل لحل مشاكل الاقتصاد. وطلب دعم الطبقات الفقيرة له والصبر على هذه السياسات، وقد كان له هذا بسبب شعبيته ونجاحاته المتتالية، مع مراعاة ظروف الطبقات العليا أيضاً.

 أدى هذا البرنامج إلى خفض عجز الموازنة وارتفاع التصنيف الائتماني للبلاد ومن ثم عودة الثقة للاقتصاد البرازيلي، وبناء عليه تلقت البرازيل نحو 200 مليار دولار استثمارات مباشرة من 2004 وحتى 2011.

الخطوة الثانية كانت الانطلاق نحو عدة محاور اقتصادية مترابطة بدأت من تغير سياسية الاقتراض وتقليل سعر الفائدة مما شجع المشروعات الصغيرة والمتوسطة لصغار المواطنين، وتوفير فرص عمل ورفع الطاقة الإنتاجية مما أدى إلى زيادة الدخل لنصف سكان البرازيل خلال العقد الاخير.

المحور الثاني ارتكز إلى التوسع الزراعي مع التركيز على إنتاج محاصيل زراعية متميزة عليها طلب عالمي ليستطيع أن يغزو بها الأسواق العالمية، وبالتالي نجحت البرازيل في ذلك مما ساهم في سد العجز في ميزان المدفوعات الذي كان يعانى منه الاقتصاد البرازيلي قبيل عام 2003.
المحور الثالث كان من نصيب الصناعة واتجهت السياسات الاقتصادية  للبرازيل في هذا الشأن إلى الاهتمام بشقين للصناعة، الأول هو التوسع في  الصناعات البسيطة القائمة على المواد الخام مثل تعدين المعادن والصناعات الغذائية والجلدية والنسيج، والثاني هو الصناعات التقنية المتقدمة، حيث خطت البلاد خطوات واسعة في العقد الأخير في صناعات السيارات والطائرات التي تعتمد علي التكنولوجيا المتقدمة.

ثم جاءت السياحة في المحور الرابع حيث تمتاز الطبيعة السياحية للبرازيل بكم هائل من الغابات وشواطئ وجبال مؤهلة وبقوة لاجتذاب اعداد كبيرة من السائحين ، ولكنها ابتكرت طريقة غير تقليدية لجذب افواج هائلة من السائحين وهي “بسياحة المهرجانات”  فالبرازيل دولة تمتلك تراث شعبي شديد الخصوصية في الاحتفال عن طريق المهرجانات الجماهيرية التي تشهد حالة من الاحتفال الجماعي في الشوارع برقصات السامبا والموسيقى والألوان والاستعراضات المبهرة، وقد نجحت في الترويج لمثل هذا اللون الخاص من السياحة ونجحت في استقبال 5 ملايين سائحا سنويا.

التنمية الإجتماعية إلى جانب التنمية الإقتصادية

ركزت البرازيل علي الجانب الإجتماعي للأسر محدودة الدخل، حيث وضعت برنامج يهدف إلى تقديم إعانات إجتماعية مشروطة يسمي “بولسا فاميليا”، ويتضمن البرنامج شروط صارمة تشمل التزام الأسرة بإرسال أطفالها للتعليم والالتزام بالحصول على الأمصال واللقاحات بشكل منتظم. وبعد التأكد من التزام الأسرة بالشروط السابقة، تحصل الأسرة على دعم بمتوسط يبلغ تقريبا 87 دولار شهريا وهو ما يعادل 40% من الحد الأدنى للأجر في البلاد، وتصرف الإعانة عن كل طفل بحد أقصى ثلاثة أطفال، كما تصرف هذه الإعانات للام بهدف ضمان صرفها لتحسين ظروف الأطفال والأسرة.

وقد نجح الرئيس لولا في توسيع قاعدة المستفيدين من البرنامج ليشمل نحو 11 مليون أسرة، وهو ما يعني 64 مليون شخص بما يعادل حوالي 33% من الشعب البرازيلي. وعلى الرغم من أن هذا البرنامج لم يستطع أن يقضي على الفقر تماماً ولكنه استطاع تحريك ملايين الأسر من منطقة الفقر إلى منطقة “الطبقة الوسطى الجديدة”.

الدروس المستفادة من التجربة البرازيلية

يتميز برنامج لولا الاقتصادي بتوفير رؤية شاملة وواضحة وظهر ذلك في وضع برنامج إصلاحي شامل ومحدد الخطوات والأهداف، وإرادة سياسية قوية لتنفيذ هذا البرنامج رغم أي صعوبات، والالتزام بالشفافية والوضوح في التعامل مع الجماهير. وقد واجه لولا صعوبات كبيرة في بداية فترته الأولى وكان أهمها ضرورة التزامه ببرنامج التقشف، وتوجه بكل شجاعة إلى شعبه ليصارحه بأنه لا مفر من الالتزام بهذا البرنامج للخروج من الأزمة الاقتصادية وتوجهه بشكل مباشر إلى الشعب ليطلب دعمه في تنفيذ برنامجه الاقتصادي هو ما كتب له النجاح.

وعلى عكس ذلك في مصر فنجد أن حكومة قنديل لم تصارح الشعب حتي الآن بالوضع الاقتصادي الحالي واعتمدت فقط علي بعض الأرقام، دون تقديم رؤية واضحة وبرنامج اقتصادي مدروس لحل الازمة الاقتصادية المتعثرة، وحتى إعلانها عن تقديم برنامج إصلاحي اقتصادي لصندوق النقد الدولي لم تصارح الشعب بملامح هذا البرنامج وما العبء الذي سيتحمله المواطن، وما أهداف هذا البرنامج.

العدالة الاجتماعية كانت محورا أساسيا في برنامج البرازيل الاقتصادي، فقد قدم “لولا” رؤية شاملة للعدالة الاجتماعية تهدف إلى رفع مستوى المعيشة للأسر الفقيرة ومساعدتها للإنتقال إلى مستوى إجتماعي واقتصادي أعلى، وبشروط تهدف إلى تحقيق النمو والتنمية في البرازيل، واضعة أيضاً نصب أعينها أن هذا الأمر لا ينبغي أن يتم بعيدا عن مراعاة حقوق الطبقات الغنية ليس فقط باعتبارهم جزء من مواطني الدولة لهم كافة الحقوق، وإنما أيضا من باب أن حماية حقوق المستثمرين ورجال الأعمال المحليين والأجانب يؤدي إلى انتعاش الأسواق وزيادة فرص العمل، وهو ما يصب في النهاية لصالح النمو الاقتصادي بشكل عام وتحسين حالة الطبقات الفقيرة بشكل خاص.

ولكن في مصر الآن الدولة لم تقدم برنامج إجتماعي اقتصادي يهدف إلى انتشال الاَف من الأسر المصرية التي وصلت إلى حالة الفقر المدقع، واعتمدت فقط على الدعم النقدي للسلع والتي يضيع أغلبه هباءً دون الوصول لمستحقيه. وقد عاشت مصر خلال العقدين الماضيين بصفة خاصة حالة من تآكل الطبقة الوسطى، ونزوح الملايين إلى مرتبة الطبقة الفقيرة واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء بدرجة مستفزة، حتى أصبحت العدالة الاجتماعية والحصول على العيشة الكريمة أحد مطالب ثورة يناير، وحتي الآن لم يتحقق هذا المطلب على أرض الواقع المصري.

معجزة البرازيل الاقتصادية ما كان لها أن تحدث لو لم تتوفر إرادة شعبية حقيقية ووعي جماهيري لأهمية النهوض، فالشعب البرازيلي بطبقاته الفقيرة هو من تحمل أعباء سياسات التقشف حتى تعافى الاقتصاد البرازيلي، وكم تحتاج مصر اليوم بعد أن أسقطت نظام سياسي واقتصادي فاسد إلى هذه الإرادة  والروح القوية للنهوض من أزمتها الاقتصادية وتحقيق أهداف ثورتها.