شريفة النّمري امرأة تونسيّة ليست كباقي بنات جنسها، فهي تعمل بمهنة لطالما اقترنت بالرّجال. “الرّايس” كما يحلو للجميع مناداتها، كسرت القاعدة واختارت البحر موردا للرزق.

[ibimage==6214==Small_Image==none==self==null]

شريفة تخيط شباكها

وجدناها في ميناء سيدي بوسعيد، تخيط شباكها. الرّجال يتعاونون في تنظيف شباكهم من عوالق البحر فيما هي تقوم بهذا العمل بمفردها.

شريفة النّمري امرأة تونسيّة ليست كباقي بنات جنسها، فهي تعمل بمهنة لطالما اقترنت بالرّجال. “الرّايس” كما يحلو للجميع مناداتها، كسرت القاعدة واختارت البحر موردا للرزق.

[ibimage==6214==Small_Image==none==self==null]

شريفة تخيط شباكها

وجدناها في ميناء سيدي بوسعيد، تخيط شباكها. الرّجال يتعاونون في تنظيف شباكهم من عوالق البحر فيما هي تقوم بهذا العمل بمفردها.

ليس من الواضح إن كانت العزلة قرارا اتخذته كي تحمي نفسها من ألسنة المجتمع، أم أن الصيادين الرجال طوّقوها بها كي يخرجوها من عالمهم الذكوري الفظّ.

“لا هذا ولا ذاك” تقول شريفة. “الصيادون يحترمونني كثيرا.. كل ما هنالك أن المواضيع التي يتحدّث بها الرجال تهمّهم وحدهم، لذا فهم يريدون أحياناً بعض الخصوصيّة”.

“بحّارة أباً عن جدّ”

كلام شريفة سيؤكده بعد قليل البحارة الذين يمرون من جانب “الرايس”، يلقون عليها السلام ويتمنون لها رزقا وفيرا، أو الشباب منهم الذين يأتون ليسألوها عن بعض أنواع السمك وكأنها الخبير الوحيد على الشاطئ، أو آخرون يستفسرون عن توقعاتها للطقس اليوم، أو يستعيرون منها أدوات صيد وحبال.

فالسيدة التي ولدت قبل 65 عاماً في منطقة سيدي بوسعيد السياحيّة (20 كلم شمال شرق العاصمة)، تنحدر من عائلة تمتهن الصيد البحري منذ عقود، يعرفها جميع البحارة الطاعنين في السن. وقد كان والدها وعمّها، وجدّها من قبلهما، يقتاتون من بيع ما يجود البحر عليهم من أنواع السمك، لذا فهي “بحارة أبا عن جد” كما تصف نفسها.

ومع أنها خرجت عندما كانت طفلة صغيرة في رحلات صيد عديدة، إلا أن سنة 1985 كانت نقطة التحول في حياتها. ففي تلك السنة توفّي عمّها، تاركاً لها مركب صيد يحمل اسم “تيريزا”.

[ibimage==6226==Small_Image==none==self==null]

الرايس شريفة على ظهر مركبها “تيريزا”

ومنذ ذلك التاريخ تتراوح حياة الخالة شريفة بين ساعات تمضيها على اليابسة وأخرى تقضّيها مع “تيريزا” في عباب البحر. تلقي شباكها في المساء، لتعود فجر اليوم التالي وتخرجها بما فيها من أسماك.

“تعوّدت البحر”

البحر في عين هذه السيدة يتجاوز كونه مجرّد مصدر للرزق وكسب المال، فهو يمثّل موطنا لها وعالما تلجأ إليه لساعات طويلة هربا من متاعب الحياة . “أحبّ هذا البحر كواحد من أولادي، ولكنّي أخافه أيضاً، فمن منّا، لا يخافه، هو صعب وخطر أكثر ممّا تتصوّر”، تقول فيما عيناها تنظران إلى بعيد.

بالقياس مع عمرها، فإن “الرايس” نالت نصيبا طيّبا من التعليم والخبرة العملية، فقد درست في مدرسة الفتيات الابتدائية بسيدي بوسعيد، ثم تحوّلت لتدرس اللغة الإنكليزية في معهد بورقيبة للغات الحيّة بالعاصمة تونس. وعملت أربع سنوات جليسة أطفال في سفارة الولايات المتحدة الأمريكيّة في تونس منذ عام 1967.

وقد كان بوسعها لو أرادت أن تعمل موظفة في الحكومة أو في إحدى الشركات الخاصة، لكنها تقول لـ “مراسلون”، “لو عرضوا عليّا راتبا يفوق دخلي بمئة مرّة سأختار البحر”، وتضيف “تعوّدت البحر وما فيه من لذّة وحرّية أحسد نفسي عليهما”.

ومع أن الرايس تزوّجت سنة 1971 برجل لا علاقة له بالبحر لا من قريب ولا من بعيد، لكن عملها كبحّارة لم يشكّل أي عائق في طريق حياتها الزّوجيّة ووظيفتها كأم وربّة بيت.

ففي الساعة الثالثة صباحا تستفيق شريفة لتصلّي وتقوم ببعض شؤون المنزل وتحضّر وجبة الطعام لأبنائها، لتدخل في الساعة الرابعة البحر صحبة مركبها “تيريزا”، وتجني ثمار مجهود بذلته مساء اليوم السّابق.

قد يحصل احيانا أن يدخل البحر بينها وبين أسرتها، تقول شريفة، كما حدث قبل سنوات طويلة. “وقتها رافقني أحد أبنائي للصّيد وكان عمره 10 سنوات، وبدون إنذار تعالت الامواج، فكنت الأم التي تحتضن ابنها وتحميه، وفي الآن ذاته البحّارة التي تتعامل مع بحر غاضب لتخرج ما يساعدها على كسب قوتها”.

“أنا لست ثورية”

علاقة “الرايس” بالسياسة ليست قوية، بحسب قولها، بل إنها بالكاد تجد وقتا لمتابعة نشرات الأخبار، وإن وجدت، فإنها تتابع القسم الأخير منها الذي يهمها في عملها؛ نشرة الأحوال الجوية!

وترى الخالة شريفة أن الثورة جلبت للتونسيين الكثير من التحولات، خاصة في حرية الكلام وإبداء الرأي. لكنها تعترف أنها شخصيا، كانت بعيدة عن مجريات الأحداث في بلدها ولم تشارك في أي فعل يرمي إلى إسقاط النظام.

ولدى سؤالها عن الحزب الأقرب إلى تطلعاتها اليوم صمتت لحظة لتنشغل بتخليص شباكها من بعض الأعشاب البحرية، ثم استدركت مبتسمة، “كوني أصلي فهذا لا يعني أني من أنصار النهضة”.

وتضيف شريفة النمري أنها لم تنتخب أي حزب في الانتخابات الاولى بعد الثورة، يوم 23 اكتوبر 2012. والسبب عدم درايتها اللّازمة ببرامج الاحزاب أو تاريخها، ولكن الأكيد، كما تقول، إنّها لم تنتخب الأحزاب الإسلامية، ولن تنتخبها في المستقبل.

ليست ككل الرجال

في حدود الخامسة والنصف مساءا اعتذرت “الرّايس” وودّعتنا لتصعد على ظهر “تيريزا” وتغيّر ملابسها لترتدي بزّة واقية من البلل، ثمّ انطلقت نحو بحرها لترمي شباكها.

ظلّت “مراسلون” تراقبها وهي تصغر وتصغر كلّما ابتعدت عن الميناء، تاركة وراءها قصّتها مع البحر. اختفت الرايس في أعماق الازرق الكبير، لكن ظلت ماثلة في الذهن كامرأة ليست ككلّ النساء.. ولا ككلّ الرّجال.