بات واضحاً أن ليبيا لاتتوفر فيها مقومات لنجاح أي انقلاب عسكري، فالانقلاب يحتاج إلى مركز قوة حتى يتم الاستيلاء عليه وبسط السيطرة، وليبيا بها مراكز متعددة للقوة يستحيل بالمعنى الجازم للكلمة السيطرة عليها لاختلافها واستقلاليتها.

بات واضحاً أن ليبيا لاتتوفر فيها مقومات لنجاح أي انقلاب عسكري، فالانقلاب يحتاج إلى مركز قوة حتى يتم الاستيلاء عليه وبسط السيطرة، وليبيا بها مراكز متعددة للقوة يستحيل بالمعنى الجازم للكلمة السيطرة عليها لاختلافها واستقلاليتها.

فلا يمكن على سبيل المثال السيطرة على رأس الحكومة أو وزاراتها أو المؤتمر الوطني وإعلان انقلاب، فالمنقلبون على السلطة مهددون بتحركات مراكز قوى أخرى ضدهم بدوافع وطنية أو حزبية، وفي أقل الأحوال خطورة فهم لا يملكون قدرة بسط السيطرة على مدن مستقلة، بالتالي يصبح الدخول في مشروع انقلاب هو دخول في مشروع انتحار جسدي وسياسي، لذا فإن هذا الاحتمال بعيد الحدوث لوضوح غباءه.

غير أن خطورة الوضع الراهن في ليبيا ترتكز على المراهقة السياسية التي يعيشها الساسة الليبيون، والتي تدفعهم أحياناً عن غير معرفة لمحاكاة التجارب السياسية في إسقاط الحكومات، وبالتالي حياكة مكائد يرونها مشروعة لتحقيق مكاسب وإقصاء خصوم سياسين، مع إغفال أن الحالة الليبية هي حالة خاصة وحساسة لا تتوافر فيها شروط التنافس السياسي المتقدم، فالساسة الأغبياء فقط من يرقصون في حقل الألغام.

وللأسف لدينا في ليبيا ساسة يرقصون في حقل الألغام وتنقصهم الثقافة السياسية حتى المقروءة منها، وقد لا أبالغ لو قلت بأن معظمهم تنقصه الموهبة الفطرية في تقدير الأمور، فالتجربة التي خاضها الليبييون في الثورة شرعت لهم على نحو اضطراري حمل السلاح، لكن هذه الشرعية مالبثت أن تأصلت، ولم تتجذر في نفسية الرجل البسيط فقط، بل تجذرت في رؤوس السياسيين الذين وصلت بهم أطماعهم إلى محاولة استخدام الفئات المسلحة داخل اللعبة السياسية في منحى خطير يحول الصراع السياسي إلى صراع مسلح، ومع وجود الأبعاد المناطقية والجهوية لهذا الصراع فأنا لا أبالغ لو قلت بأن معظم الحروب الأهلية دخلت من هذا الباب.

لم تكن هذه المحاولات هي الأولى من نوعها بعد الثورة، فقد سبق هذا مساعٍ كثيرة لإسقاط شرعيات منتخبة، وكانت هناك العديد من المحاولات لإسقاط المجالس المحلية المنتخبة بالمدن، وقد نجح بعضها بعد تظافر جهود لوبيات سياسية داخل المدن والحكومة والمؤتمر الوطني، في التشكيك في جدوى الانتخابات ونتائجها، وتصدير الخلافات السياسية من هرم السلطة إلى مفاصل المدن والقرى.

غير أن تسليح هذه المحاولات اليوم على مستوى الدولة يجعلها الأسوأ والاكثر خطورة، وتتعزز تلك الخطورة مع وجود بعض الذين أخفقوا في الحصول على مناصب سياسية بعد ترشحهم وفق الأطر الديمقراطية، ما جعلهم يسلكون سبلاً غير ديمقراطية للوصول إلى السلطة، وذلك من خلال تأجيج الصراع والرفع من مستوى الاحتقان والعنف اللفظي بين الخصوم السياسيين والمسلحين والعزّل على حدٍ سواء.

إن كل من يحول الصراع السياسي إلى صراع مسلح في بلد تتوفر فيه شروط الاقتتال ويمر بتحول ديمقراطي وتحكمه سلطة منتخبة مستخدماً البسطاء الذين يعتقدون أنهم يقفون في صف الحقيقة إنما يتاجر بمصير البلاد، أما الساسة الذين يعتقدون بأنهم يحققون إنجازات حزبية ولايعرفون العواقب، أنصحهم بعدم الرقص، فالألغام عمياء وليبيا أهم وأغلى منا ومن ثورتنا.