تنتظر زينب ابو المجد، استاذة تاريخ الشرق الاوسط بجامعة اوبرلين بولاية أوهايو الامريكية صدور كتابها الأحدث عن تاريخ ثورات الأنفار (عمال التراحيل) “subaltern” في جنوب مصر على مدار خمسة قرون تبدأ بعام 1500 حتى نهاية القرن العشرين.

زينب بدأت منذ أيار/مايو2011 في تتبع امبراطورية الجيش المصري الاقتصادية ونشرت اولى مقالاتها حول الموضوع باسم مستعار، ثم بدأت تنشر باسمها الحقيقي. حول وضع المؤسسة العسكرية داخل الدولة المصرية في ظل وجود رئيس منتخب كان لنا مع ابو المجد هذا الحوار:

كيف ترين وضع المؤسسة العسكرية في الجمهورية الثانية؟

بداية لا يوجد جمهورية ثانية. نحن مازلنا نعيش تحت سيطرة نفس النظام السلطوي الذي دعم اركانه مبارك والقائم على احتكار حزب واحد للسلطة واقتصاد نيوليبرالي وممارسات قمعية تقوم بها الشرطة ضد المعارضين وتضييق على منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام.

فأعمدة نظام مبارك الرئيسية مازالت قائمة وتعمل بنفس المنهج لذا لا نستطيع أن نقول إن هناك جمهورية ثانية، ولكن نستطيع ان نقول إن الاخوان ورثوا نظام مبارك السلطوي.

الجمهورية الثانية ستولد عندما تتوفر عناصر وآليات تغيير البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجتمع المصري، لذا يمكنني القول ان المؤسسة العسكرية تحتل نفس المكانة وتلعب نفس الادوار التي كانت تمارسها في نظام مبارك، بل على العكس زادت امكانات تلك المؤسسة واصبحت عاملا معرقلا بشكل اكبر لعملية التغيير الديموقراطي.

بالنسبة لك متى بدأ تحول الجيش من مؤسسة قتالية إلى مؤسسة لها مصالح إقتصادية؟

المؤسسة العسكرية طوال فترة مبارك تحولت لمؤسسة همها الاكبر انشاء مشروعات اقتصادية كبرى، هذا التحول يمكن التأريخ له منذ 1979 بعد انتهاء الحرب وتوقيع معاهدة السلام مع اسرائيل، عندما انشأ السادات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع، وكانت مهمته مساعدة الحكومة في إنشاء مشروعات البنية التحتية.

ولكن في الثمانينات بدأ المشير أبو غزالة وزير الدفاع آنذاك في وضع الخطوات الاولى لعمل الجيش في مجال الاعمال التجارية التي بدأت عبر انشاء مجمعات سكنية وتجارية لضباط الجيش، ثم بدأت هذه السياسة في التوسع فيما بعد بشكل أكبر وخاصة في التسعينات، وتضخمت خلال العقد الاول من الالفية الجديدة.

أما التحول إلى اقتصاد السوق فبدأ رسميا في 1992 بعد مشاركة مصر في حرب الخليج وتلقي مبارك وعودا بجدولة ديون مصر مقابل تطبيق برنامج اصلاح اقتصادي والذي اشتمل على خصصة مشروعات الدولة.

وبدأ الجيش يشارك عبر انشاء المزيد من المشروعات، ثم تصاعد ذلك مع سطوع نجم جمال مبارك ومجموعة رجال الاعمال القريبة منه. واحساس المؤسسة العسكرية ان البساط يسحب من تحت قدميها مما دفع الجيش للتوسع بشكل أكبر عبر جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والهيئة العربية للتصنيع ووزارة الانتاج الحربي وانتاج سلع مدنية.

وفي العقد الاخير من عصر مبارك حصل الجيش على امتيازات اقتصادية هائلة، ووضعية مميزة داخل السلطة، فتم تعيين ضباط الجيش المتقاعدين في مناصب كبيرة داخل بيروقراطية الدولة من محافظين إلى رؤساء هيئات وشركات ورؤساء مدن وأحياء. وبالتالي حصلوا على سلطة ادارية كبيرة بجانب التوسع الاقتصادي.

برأيك، هل ساهم ظهور جمال مبارك وجماعته خلال السنوات العشر الأخيرة في التوسع ام التضييق؟

بحسب الرصد الذي قمت به يمكن القول أن المؤسسة العسكرية بدأت تنتعش اقتصاديا مع نهاية التسعينات، وقد شهد العقد الاول من الالفية توحشا اقتصاديا حيث حاولوا السيطرة على كل ما يمكنهم الوصول إليه في منافسة مع كبار رجال الأعمال الصاعدين مع لجنة السياسات.

ثمة رواية شاعت بعد قيام الثورة مفادها أن المؤسسة العسكرية كانت ضد خصخصة القطاع العام وانه في احدى اجتماعات حكومة احمد نظيف لمناقشة بيع احدى المؤسسات اعترض المشير طنطاوي ورفض عملية البيع؟

هذا كلام دعائي، فالمشير نفسه كان عضوا في لجنة الخصخصة، ولو صحت هذه الرواية فكيف تم بيع كل هذه المؤسسات والشركات ولماذا لم تحدث انتفاضة المشير تلك منذ البداية. ثم ان المؤسسة العسكرية كانت احدى المنافسين في عمليات البيع، فعندما تمت خصخصة شركة السكك الحديدية “سيماف” قامت الهيئة العربية للتصنيع بشرائها، فكيف يمكن ان يكون الجيش ضد الخصخصة في الوقت الذي كان يحاول الاستفادة من هذه الصفقات وضم الشركات المباعة إليه.

والنموذج الفارق هو شركة النصر للسيارات التي وضعت وزارة الانتاج الحربي يدها عليها في الاسابيع الاخيرة، علما أن صفقة بيع الشركة بدأت منذ 2010. وعندها ارسل المشير خطابا إلى المسؤولين يخبرهم فيها برغبته في ضم الشركة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية.

فكيف يمكن ان نسمي هذا سوى ان الجيش مشتري منافس ضمن منافسة غير شريفة إذ تتمكن المؤسسة العسكرية من وضع يدها على ما تريده بحكم ما لها من نفوذ.

هذا بالاضافة إلى تحكم الجيش في عدد كبير من منافذ التجارة الخارجية، فشركة الملاحة النيلية المسؤولة عن التجارة بين مصر والسودان مهيمن عليها من قبل العسكر، بالاضافة إلى سيطرتهم على عدد ضخم من شكرات الشحن والتفريغ بحكم القيادات التي ترأس هذه الشركات في الاسكندرية وقناة السويس.

ومبارك كان يسمح بكل هذا التغلغل الاقتصادي لأنه كان يريد إرضاء الجيش لتمرير مشروع التوريث، وهذا الوضع لم ينته بعد الثورة، وهو احد اهم دلائل استمرار النظام السلطوي المباركي. فسيطرة الجيش اقتصاديا والمتغولة سياسيا استمرت بل وزادت ايضا، في البداية بشكل يمكن اعتباره منطقيا خلال حكم المجلس العسكري للبلاد.

وقد يتصور البعض بسذاجة ان هذا الوضع انتهى بعد وصول الرئيس محمد مرسي الى الحكم ومسرحية تنحي المشير، ولكن كما كان مبارك يحاول استرضاء الجيش عبر اطلاق يده اقتصاديا لتمرير التوريث، يحاول الاخوان أيضا استرضاء الجيش عبر الطريقة نفسها.

ألا ترين ان سيطرة الجيش على مفاصل الدولة البيروقراطية عبر وجود قيادات عسكرية على رأس شركات ومؤسسات وهيئات قد بدأت في 1952 وليس فقط ايام مبارك؟

حقبة الخمسينات والستينات مختلفة، فالجيش آنذاك لم يكن يملك مؤسسات اقتصادية ولكنه كان يدير الدولة ومؤسساتها كونه الحاكم فقط. وكانت ملكية كل المشروعات القائمة تعود للدولة الاشتراكية وقتذاك، كمستثمر وحيد وليس للقطاع الخاص او لمؤسسة من المؤسسات.

ولكن يمكن القول ان هذه الفترة بالنسبة للمؤسسة العسكرية بمثابة فترة تحصيل خبرات في مجال الادارة الاقتصادية، وخصوصا من خلال الاحتكاك مع الخبرة السوفيتية في ذلك الوقت، وبالتالي ظلت خبرة المؤسسة العسكرية في الادراة خبرة سوفيتية قديمة التي من اهم سماتها القمع، قمع مجتمع العاملين من اجل بناء الاقتصاد الاشتراكي.

وعندما بدأت المؤسسة العسكرية في اقامة مشاريعها منذ الثمانينات تم استدعاء هذه الخبرة السوفيتية القمعية، وما ساعدهم في ذلك ايضا كون الجيش قائم على فكرة الطاعة والانضباط.  فأنت كعامل في مصنع حربي ينتج ثلاجات او تلفزيونات يجب ان تطيع مدير المصنع لا كمدير وانما كقائد عسكري، وبالتالي في حالة مخالفة الاوامر ستحاكم محاكمة عسكرية لا مدنية وسيتم سجنك في سجن عسكري.

هناك صورة يتم تصديرها دائما عبر مختلف الوسائل الاعلامية بل وعبر الاعمال الدرامية ايضا وهي صورة الجيش المصري الوطني الحامي المدافع عن ارض الوطن..

هذه اسطورة ووهم كبير، فقد خلق الجيش منذ الخمسينات مجموعة من الاساطير والاوهام من حوله فهو درع الوطن وحاميه الى اخر هذه الصفات الوهمية. بداية من حكاية “ثورة” 1952 التي قام بها الجيش، فما كان ليس ثورة وانما انقلاب لم يصفه الضباط الاحرار انفسهم في البداية بالثورة وانما بـ “الحركة المباركة”.

بعد ذلك وعندما اطلق طه حسين صفة ثورة على ما حدث بدأت الاجهزة الاعلامية والدعائية في اعادة رواية الانقلاب كثورة. بالتأكيد تلك الفترة التاريخية كانت ومازلت فترة جذابة وخلابة ومليئة بالمشاعر الوطنية العالية. ولكنها ايضا كانت مليئة بالاساطير، قطاع كبير من الجماهير كان يؤمن بمشروع عبد الناصر ولكن عبد الناصر نفسه هو الذي اصاب الجميع بالخسارة والاحباط، بالاضافة الي الهزيمة امام اسرائيل وفقدان سيناء، لتلي ذلك فترة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” وتجند البلاد بجميع طاقتها وامكانياتها وشبابها من اجل خوص معركة استعادة ما ضيعه عبد الناصر.

ثم تأتي حرب 1973 التي ضيعها ايضا السادات لتنتهي تلك الحرب بشبه هزيمة يعرفها العالم كله، بينما نحن عشنا في اسطورة كبيرة لم تتوقف حتى الان حول انتصار اكتوبر 1973. في حين ان سيناء الان منطقة منزوعة السلاح ويوجد بها مناطق خارج سيطرة الجيش ولا يمكنه دخولها إلا بعدد آليات وجنود معين بحكم اتفاقية السلام مع اسرائيل التي خرجت من سيناء ومع عدم فرض مصر كامل سيطرتها على هذه المنطقة.

وبعد ان انتهت الحرب بدأت المؤسسة العسكرية في خلق اسطورة جديدة مفادها ان الجيش يعمل على تنمية البلاد ويقوم بضبط الاسعار عن طريق توفير سلع استهلاكية باسعار رخيصة للطبقات المتوسطة والدنيا، وانه يقوم بتوفير ميزانية الدولة.

ولكن في حال التدقيق والبحث وراء هذه المقولات نكتشف انها اوهام وأن الهدف من مشاريع الجيش الاقتصادية هو زيادة المكاسب المالية للمؤسسة العسكرية.

وهناك مثال صارخ على هذا الأداء وهو مصنع العريش للاسمنت الذي افتتحه الجيش منذ عام تقريبا في نيسان/ابريل الماضي، وصدع القادة العسكريون رؤوسنا بأن الهدف هو ضبط اسعار الاسمنت في السوق المصري، ولكن المفاجأة ان اسعار الاسمنت الذي ينتجه هذا المصنع لا تقل عن اسعار المصانع الخاصة بل تزيد احيانا.

مع العلم بان المؤسسة العسكرية لا تدفع ضرائب او جمارك او رسوم استهلاك مياه وكهرباء وطاقة، بالاضافة إلى ان الارض المقام عليها المصنع حصل عليها الجيش بشكل مجاني وايضا العمالة داخل المصنع هم من الجنود الذين يؤدون الخدمة الاجبارية وبالتالي يتلقون اجورا زهيدة. اذا هم حصلوا على مصنع مجاني ولا يدفعون عنه اية رسوم وبالرغم من ذلك فهم يبيعون السلعة بنفس اسعار السوق العادية فلا يوجد اسم لهذا سوى، الاستغلال.

فنحن نعيش مرحلة حساسة بين خيارين كلاهما مر فلدينا الإخوان بكل خيباتهم المتوالية يوميا والافق الاسود الذي يقودون الجميع اليه، والبديل الذي يطرحه البعض وهو الجيش الذي نعرف مساوءه وخطاياه، لذا يضطر البعض احيانا للسكوت عن خطايا المؤسسة العسكرية كي لا ينفرد بنا الاخوان. وانا لا اريد السكوت عن اخطاء الجيش الوحشية، فوجود المؤسسة العسكرية بهذا الوضع هو احد اسباب عرقلة التحول الديموقراطي، فنتيجة الحفاظ على مصالح المؤسسة الاقتصادية اصبح العسكر على استعداد للتضحية بكل شيء في مقابل عدم المساس بتلك الامبراطورية، فليأتي الاخوان او السلفيين او اي فصيل سياسي آخر، المهم الحفاظ على وضعية الجيش كما هي، وضعية مميزة في الدستور، ميزانية سرية، عدم وجود رقابة مدنية …الخ.

هل ترين ان هناك صراعا بين المؤسسة العسكرية والاخوان؟

اجل، هناك صراع ولكن الاخوان لا يستطيعون الان الاستيلاء على المؤسسة العسكرية لذا فهم مضطرون لقبول شروطها، تاركين لها المساحة والسلطة التي تطلبها، ولكن هذا لا ينفي وجود توتر بين الجانبين.

ولكن ما الذي تقصدينه باستيلاء الاخوان على الجيش؟

اي تجنيد عدد كبير من ضباط الصف الثاني والثالث والافراد للاخوان، مع العلم بان اغلبية افراد الجيش والعاملين به قد نشؤوا في عصر سيطرة الاخوان والاسلاميين بشكل عام على الحياة الاجتماعية في مصر، ومع ضعف المستوى الثقافي العام فهم قريبين بشكل تلقائي من خطاب الاخوان، وهذا ما يقلق القيادات الكبيرة في الجيش.

من الناحية الاخرى هل ترين امكانية لانقلاب المؤسسة العسكرية على الاخوان؟

لا اظن ذلك، فالجيش الان مؤسسة اقتصادية تسعى نحو مصالحها، وطالما ان تلك المصالح متحققة ومؤمنة فلماذا يصنع انقلابا يهز تلك المصالح.

اذن كيف تفسرين النداءات التي انتشرت في الفترة الاخيرة بين عدد من السياسيين والعاملين بالشأن العام والتي تطالب بعودة الجيش؟

هذه الدعوات تنتشر بين فريقين الاول هو الجيل القديم من المثقفين والسياسيين الذي عاش في ظل الدولة العسكرية في الخمسينات والستينات، ومازال يحلم بعودة تلك الدولة. فإذا نظرت إلى غالبية اعمار هؤلاء فستجد انهم اما من الجيل الذي عاش في ظل دولة ناصر او الجيل التالي الذي نظر لعبد الناصر نظرة مثالية ومازالوا يرون ان الجيش هو الوحيد القادر على اخذ مبادرة بناء دولة حديثة، إلى جانب ان الدول القومية الحديثة والتي اقامت مشاريع تحديثية كبيرة عبر التاريخ كان زعماؤها عسكريين من نابليون لكمال أتاتورك إلى شارل ديجول. والفريق الثاني هو شديد الكراهية للإخوان والذي على استعداد لتقبل اي بديل مهما كان سيئا للخلاص من حكم الاسلاميين بشكل عام.