تشرفت وزميلتي في قناة ليبيا لكل الأحرار سناء المنصوري في عطلة نهاية الأسبوع يومي 20 و21 من نيسان/ أبريل، بالسفر إلى دبي لإجراء مقابلة تلفزيونية مع رئيس وزراء ليبيا الأسبق مصطفى بن حليم. قابلنا الرجل في بيته بمنطقة الجميرا وهو يتكىء على عكازه ويحمل على كاهله اثنين وتسعين عاما من العمر.
تشرفت وزميلتي في قناة ليبيا لكل الأحرار سناء المنصوري في عطلة نهاية الأسبوع يومي 20 و21 من نيسان/ أبريل، بالسفر إلى دبي لإجراء مقابلة تلفزيونية مع رئيس وزراء ليبيا الأسبق مصطفى بن حليم. قابلنا الرجل في بيته بمنطقة الجميرا وهو يتكىء على عكازه ويحمل على كاهله اثنين وتسعين عاما من العمر.
وبالرغم من تقدمه في السن ومحاصرته بأمراض الشيخوخة، إلا أنه كان حاد الذاكرة وحاضر البديهة، وتحمل تسجيل ثماني حلقات تلفزيونية على مدى يومين، وكان حريصاً وعائلته الكريمة على إحاطتنا بكل وسائل الراحة والضيافة، لعائلة تعودت على زيارات الملوك ورؤساء الدول والوزراء والإعلاميين، وهذا ما تؤكده الصور المعلقة في غرفة الاستقبال، والتي جمعته مع عظماء العالم، مثل أيزنهاور وديغول ونيكسون وعبد الناصر والملك فهد الذي ربطته به علاقة صداقة نادرة المثال.
ومن خلال المكالمات الهاتفية التي جرت بيني وبين السيد بن حليم قبل وصولنا إلى دبي، تأكدت أن الرجل يريد من هذا اللقاء إفراغ كل ما في جعبته، فلم يعد له أية مطامع في الدنيا بمناصبها وثرواتها، بعد أن أصاب منها الكثير، ويريد أن يبعث برسالة صادقة إلى الشعب الليبي في كيفية تجاوز هذه المرحلة الصعبة من تاريخه.
مصطفى بن حليم واحد من أبرز رؤساء الحكومات ليس فقط في العهد الملكي وإنما في تاريخ ليبيا، لما امتلكه من قدرات.
الصفة البارزة في بن حليم هي الذكاء الحاد، والدهاء الشديد الذي يحتاجه أي سياسي، ولا ينكر بن حليم هاتين الصفتين. منذ أن أطلق على ابنه البكر اسم عمرو تيمنا بعمرو بن العاص، الذي عرف بين العرب بدهائه الشديد، كما أخبرني أنه عندما كان رئيسا للوزراء كان ينشر مقالات تحت اسم “ابن العاص” ينتقد فيها الحكومة التي يرأسها بشدة، حتى يسبق المعارضة في النقد ويجعلها مجرد صدى لمقالاته، كما أنه رئيس الوزراء الوحيد الذي امتد به العمر ليعاصر ثورة شباط/فبراير، مما يجعله معيناً لا ينضب لخبرات وتجارب تحتاجها ليبيا اليوم أكثر من أي يوم مضى.
حاز عبد الحليم ثقة الملك المطلقة، في وقت كان الجميع يعامل الملك كشخصية مقدسة، أشبه بامبراطور اليابان قبل الحرب العالمية الثانية، وكان الوحيد الذي يتجرأ على الملك دون أن يفقد ثقته فيه، وهو ما لم ينجح فيه عبد الحميد البكوش (رئيس وزراء ليبيا 1967 – 1968 وهو أصغر من تولى المنصب سناً)، والذي امتلك رؤية مختلفة لليبيا، وكان على كفاءة عالية لينقل ليبيا إلى آفاق أرحب، ولكن البكوش لم يعرف كيف يحوز ثقة ملك متقلب المزاج وكثير الوساوس.
لخص بن حليم أزمة النظام الملكي في ثلاث نقاط، وهي عدم قدرة الملك على إنجاب ولي للعهد، وعدم ثقته في كفاءة ابن أخيه ولي العهد الحسن الرضا، وانقطاع كل الأواصر بينه وبين عائلة ابن عمه أحمد الشريف، الذين اعتبرهم المسؤولين عن اغتيال ناظر الملكية الخاصة إبراهيم الشلحي عام 1954.
يقول بن حليم أنه حاول إصلاح العهد الملكي مبتدئاً بمؤسسة العرش، فاقترح على الملك اختيار أحد شباب العائلة الذي يتوسم فيه القدرة على خلافته، وتدريبه على يد أخصائيين وخبراء مثلما تفعل العائلات المالكة في الدول الأخرى، أو أن يتزوج الملك على الملكة فاطمة لعل زوجته الجديدة تنجب له وليا للعهد، وأخيرا تحويل البلاد من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري.
كان بن حليم عندما اقترح على الملك هذه المقترحات الثلاثة رئيساً للوزراء، بعد حكومة محمود المنتصر ومحمد الساقزلي، وكان في الثالثة والثلاثين من عمره، وكان ذلك قبل اغتيال ابراهيم الشلحي، وهي الحادثة التي غيرت كثيراً من مزاج الملك، وجعلته زاهداً في السلطة.
تحمس الملك للمقترح الثالث واقترح على بن حليم أن يشرك والي برقة حسين مازق في النقاش، وما أن علم مازق بمخططات بن حليم حتى استنفر شيوخ قبائل برقة، الذين وفدوا إلى الملك ادريس طالبين منه الإبقاء على النظام الملكي، وهو ما خلق نوعاً من القطيعة بين بن حليم وحسين مازق، ولم يعد الصفاء بينهما إلا بعد سنوات من خلال مصالحة رتب لها شيوخ برقة، وبعد أن ترأس مازق الحكومة وخرج من نظرته الجهوية كوالٍ لبرقة لينظر إلى ليبيا مجتمعة.
بعد عشر سنوات وبالتحديد عام 1964 وبعد أن ترك بن حليم جميع مناصبه الحكومية وتفرغ لأعماله الخاصة، استدعاه الملك مرة أخرى من أجل تفعيل اقتراحه السابق بتحويل ليبيا إلى جمهورية، لكن هذه المرة رفض بن حليم، لأن الاقتراح تأخر كثيراً، والنظام الجمهوري نظام صعب ويحتاج إلى سنوات طويلة من الرعاية. عدم قدرة النظام الملكي على حسم هذا الخيار ترك البلاد تسير باتجاه الانقلاب العسكري الذي حدث فيما بعد عام 1969.
من خلال أحاديث بن حليم استنتجت أن تاريخ ليبيا الحديث لم يتغير كثيراً سواء في عهد الملك أو عهد القذافي، ففي العهدين كان هناك رجل واحد يحكم البلاد. في العهد الملكي حكمها رجل ورع وطيب وزاهد في السلطة، ولكنه كان يعاني من الوسواس، ويتغير مزاجه بسرعة، وكان ضعيفاً أمام حاشيته، وخاصة أبناء وبنات الشلحي، أما في العهد الثاني فقد حكمها رجل شرير متعطش للسلطة والاستبداد، وقادته حاشيته المتمثلة في أبنائه ورجال الخيمة إلى مصيره المحتوم، وفي كلا العهدين لم يتمكن الشعب الليبي من بناء مؤسسات قوية تلجم الرجلين، وتحقق أكبر قدر من التنمية، وتوزع السلطة بين أكبر عدد من الأشخاص الأكفاء.
يشير بن حليم إلى أحد الاجتماعات التي جمعته مع الملك وحسين مازق، عندما اعترف مازق بأن مبررات تحويل البلاد إلى النظام الجمهوري قوية ومقبولة، ولكنه تساءل في حضرة الملك بدهاء “أليس هذا ما كان يطالب به بشير السعداوي؟”.
يترحم بن حليم كثيراً على بشير السعداوي، رئيس حزب المؤتمر، والذي طالب بأن يكون الملك إدريس ملكا دستورياً على البلاد، وأن تكون السلطة بيد البرلمان ورئيس الوزراء، ولكنه رضخ للملك الذي هدد باستقلال برقة منفردة، ثم نفاه الملك بعد الاستقلال بوقت وجيز بحجة أنه لا يحمل وثيقة سفر ليبية، إلا أن بن حليم يؤكد أن الرؤية الثاقبة لبشير السعداوي هي التي كان يجب الأخذ بها منذ البداية.
روى لنا بن حليم بعض أساليبه الذكية للحصول على المساعدات من بريطانيا وأمريكا، فعندما وعدته الدولتان بالمساعدات العاجلة لأفقر بلد في العالم في ذلك الوقت، أعلن أمام البرلمان عن قرب وصول هذه المساعدات، وعندما طال انتظاره اتصل بالسوفييت واقترح عليهم تبادل السفراء، وهو ما أثار انزعاج الأمريكان والبريطانيين. وخلال المحادثات مع السوفييت اقترحت موسكو تقديم بعض المساعدات غير المشروطة لليبيا، وعندها قرر بن حليم استخدام بعض دهاءه.
في ذلك الوقت كان يعمل في الحكومة الليبية رجل استرالي يعلم الليبيون أنه كان عميلاً مزدوجاً للسفارتين الأمريكية والبريطانية، وكان الملك إدريس قد طلب من بن حليم طرد الاسترالي، إلا أن بن حليم قال للملك أنه في حاجة لهذا العميل، وعندما وصلت برقية السوفييت التي يعرضون فيها المساعدة، طلب من وزير الخارجية سليمان الجربي ترجمة البرقية إلى اللغة الانجليزية، وزيادة رقم المساعدات من ثلاثة مليون دولار إلى خمسة عشر مليون دولار، وبعد ذلك استدعى الاسترالي وطلب منه المشورة وأن يبقى الأمر سراً بينهما، وبعد خروج الاسترالي اتصل بن حليم برئيس الشرطة الاتحادية وطلب منه اخضاع الاسترالي للمراقبة لمدة 24 ساعة، وفي اليوم التالي قرأ بن حليم تقرير الشرطة، التي أكدت زيارة الاسترالي للسفارتين الأمريكية والبريطانية، وبعد وقت وجيز رنت الهواتف من السفارتين تعرضان على بن حليم مساعدات عاجلة بقيمة 12 مليون دولار.
من الواضح أن حب بن حليم الأول هو عالم الأعمال وليس عالم السياسة، وكان قبل أن يستدعيه الملك إدريس عام 1950 لتولى حقيبة الأشغال العامة في حكومة برقة، قد أشرف على إنشاء أكبر مشروعين في عهد الملك فاروق، من بينهما رصيف ميناء الإسكندرية المصمم لرسو عابرات المحيطات، لذلك ظل يتململ في مكتبه برئاسة الحكومة، وأيضا في مكتبه بمقر السفارة الليبية في باريس، ليعود إلى عالم الأعمال.
حتى وإن أضطر إلى الطلب من ابنه المرحوم طارق وهو طفل صغير بأن يتحدث مع الملك باللغة الإنجليزية عندما يقبل يده، وهو ما جعل الملك يستاء بشدة، فقال له بن حليم “يا مولاي أنا منفي في فرنسا وليس هناك مدارس عربية لأعلم أبنائي اللغة العربية”، فرد عليه الملك “أنت منفي إذاً قدم استقالتك”، وعندها أخرج بن حليم الاستقالة من جيبه ليوقعها الملك على الفور وهو لا يزال تحت نوبة غضبه واستياءه.
عاد بن حليم إلى وطنه بعد سقوط القذافي الذي كان يمنعه من دخول ليبيا بعد غياب استمر اثنين وأربعين عاماً، فاستقبله الناس في طرابلس وبنغازي بحفاوة شديدة، لكن بيته في طرابلس والذي تركه في عهدة خفير يتولى حراسته، صادره الخفير وادعى ملكيته للعقار، وحتى يفعل القضاء والشرطة سينتظر بن حليم سنوات أخرى في المنفى، قبل أن تتاح له فرصة الموت في بيته وفي وطنه الذي عاش فيه زمناً أقل من أوطان الآخرين.