“فديت” و”قلقت” هكذا يعبر التونسي عن قلقه وضجره الدائم، وهي نتيجة طبيعية، حسب الدكتورة ريم غشام طبيبة نفسية، “بسبب التحولات التي يعيشها المجتمع التونسي بعد الأحداث المتواترة والمتسارعة التي لم يعهدها التونسي بدءاً من غياب الأمن وعدم الاستقرار، وصولاً إلى الاغتيالات السياسية. هذا إلى جانب ارتفاع كلفة المعيشة وضبابية الرؤية المستقبلية.”

“فديت” و”قلقت” هكذا يعبر التونسي عن قلقه وضجره الدائم، وهي نتيجة طبيعية، حسب الدكتورة ريم غشام طبيبة نفسية، “بسبب التحولات التي يعيشها المجتمع التونسي بعد الأحداث المتواترة والمتسارعة التي لم يعهدها التونسي بدءاً من غياب الأمن وعدم الاستقرار، وصولاً إلى الاغتيالات السياسية. هذا إلى جانب ارتفاع كلفة المعيشة وضبابية الرؤية المستقبلية.”

وفي لقاء مع “مراسلون” تقول الدكتورة غشام، رئيسة جمعية الأطباء النفسانيين: “لقد ارتفع عدد مرتادي مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية بنسبة 20 في المائة مقارنةً بالأرقام المسجلة قبل الثورة، حيث ارتفع عدد المعاينات الطبية من 2956 حالة في عام 2009 إلى 3190 حالة في عام 2012. كما ارتفع عدد الحالات الطارئة من 9400 حالة إلى 10300 حالة.”

كما أشارت غشام إلى أن عدد مرتادي العيادات والمستشفيات النفسية تزايد بصفة كبيرة بعد حادثة اغتيال السياسي والحقوقي شكري بلعيد في شهر شباط/فبراير الماضي في وضح النهار وأمام بيته.

أما الاستشارات النفسية التي وردت إلى مستشفى الرازي، فقد ارتفع عددها أيضاً ليصل إلى 146 ألف حالة في عام 2012، مقابل 139 ألف حالة في عام 2011، حسبما أكد لنا فاضل مراد رئيس اللجنة الطبية بمشفى الرازي الحكومي.

هذه الزيادة رافقها ارتفاع في عدد الإقامات بهذا المستشفى، فبعد أن كانت 2560 حالة إيواء في سنة 2011، وصلت في سنة 2012 إلى 2644 (بطلب من عائلات المرضى)، ومن 1508 إلى 2220 (إيواء وجوبي بطلب من القضاء)، ومن 1998 إلى 2223 (إيواء حر)، وطبعاً الأرقام هي للفترة ذاتها (2011-2012). وأوضح مراد أن أغلب أصحاب ينحدرون من ولايات تونس الكبرى، أي تونس العاصمة وما جاورها.

وفي هذا الصدد تقول الدكتورة غشام: “رغم ثقافة رفض عيادات الطب النفسي في السابق لم يعد التونسيون يمانعون من زيارتها اليوم طلباً للأدوية المهدئة والمساعدة على الاسترخاء والنوم”، باعتبار أن “نسبة لا بأس بها من المصابين يعانون من أعراض الأرق.”

وهو ما يفسر حسب الاخصائية النفسانية “ارتفاع الطلب بنسبة كبيرة على الأدوية المضادة للاكتئاب في الصيدليات، رغم أن الجهات الرسمية لم تكشف بعد عن حجم الكميات المستهلكة من هذه الأدوية خلال السنتين الأخيرتين.”

كما أكدت “تفشي العديد من الحالات المرضية بين التونسيين، مثل القلق والاضطرابات الذهنية من نوع مرض الفصام والاضطرابات المزاجية إلى الضغط النفسي الناجم عن الحراك والتغيير السريع الذي يشهده المجتمع وارتفاع كلفة المعيشة وضبابية المشهد السياسي”.

وفي الوقت ذاته ترى أن عدم وضوح الرؤية المستقبلية قد يساهم في المرور من مرحلة الضغط النفسي إلى الاكتئاب المزمن، الذي قد يبلغ مرحلة الانتحار في حالات متقدمة، خاصة وأن الثورة ساهمت في عرض وكشف كل المشاكل التي قد يواجهها الشخص علناً.

الأمنيون والمدرسون الأكثر عرضة   

وعن الفئات الاجتماعية التي تزور المستشفيات والعيادات النفسية تقول غشام لـ”مراسلون”: “لاحظنا إقبالاً كبيراً من قِبل رجال الأمن منذ 15 كانون ثان/يناير 2011، أي بعد يوم من هروب بن علي مباشرة، حيث أن 40 في المائة منهم يتعرضون إلى أوضاع مفزعة مثل عمليات القتل والتعذيب وغيرها.”

وتضيف: “ربما يكون شعور الأمنيين بأنهم فقدوا مكانتهم القوية في المجتمع من أهم الأسباب التي جعلتهم يرتادون العيادات النفسية.”

أما الفئة الثانية فهي فئة أساتذة التعليم، وتفسر غشام ذلك بأن الثورة أسقطت حاجز الخوف حتى من قبل الطلبة والتلاميذ الذين أصبحوا أكثر وقاحة تصل إلى حد ممارسة العنف على أساتذتهم، بالإضافة إلى العنف الذي يمارسه بعض أولياء الأمور على الأساتذة. كل هذا جعل هؤلاء لا يتوانون في طلب المساعدة من الأطباء النفسانيين لتخطي عقبة فقدان سلطتهم داخل المؤسسات التعليمية.

سلوى (42 سنة)، أستاذة فيزياء بأحد المعاهد الثانوية بالعاصمة، تؤكد هذه الحقيقة. تقول سلوى لـ”مراسلون” إنها قررت منذ ستة أشهر الذهاب لطبيب نفسي بسبب الاكتئاب والأرق، وبسبب الضغط النفسي الذي تعانيه داخل أسوار المعهد، إضافة إلى ضغط الحياة اليومية بالعاصمة التي أصبحت لا تطاق.

تتابع: “قضيت 14 عاماً في ميدان التعليم، ولم أعرف مثل هذا الكره لعملي، خاصة بعد الثورة وذلك لعدة أسباب: أهمها صعوبة التعامل مع التلاميذ الذين أصبحوا أكثر وقاحة، فهم لا يخشون أحداً، لا الإدارة ولا الأستاذ ولا حتى أوليائهم، وهذا أمر خطير، لأنه يؤثر على المستوى الدراسي للتلميذ وعلى مردودية الأستاذ في الوقت نفسه”.

وعن آثار ذلك على حياتها اليومية تعترف سلوى: “لقد أصبحت كثيرة التوتر في تعاملي مع ولدي وزوجي. وهذا ما جعلني أقرر الذهاب لطبيب نفسي ليساعدني على تخطي هذه العقبات. وفعلاً أشعر الآن بتحسن لأني أصبحت أتقبل الواقع الجديد لتونس بعد الثورة.”

أزمة ثقة

يعد العنف من أبرز مظاهر تفشي الاضطرابات النفسية داخل المجتمع التونسي حسب المختصين. فقد ارتفع مستوى العنف بشتى أنواعه حتى وصل حد الاغتيالات والقتل والعنف اللفظي الذي يصدر عن المتطرفين بنوعيهما؛ النوع الأول وهم التكفيريون والمحرضون على القتل، والثاني هم من يسبون الجلالة إلى حد الكفر. والحالتان هما أبرز مظاهر الاضطرابات النفسية في تونس حسب الاطباء.

وهن هذه النقطة تقول رئيسة جمعية الاطباء النفسانيين: “لقد تزايد عدد الملحدين في تونس وذلك نتيجة لتزايد عدد المتشددين دينياً الذين يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة، وبالتالي أصبح الإلحاد نوعاً من ردة الفعل على هذا التشدد.”

ومن المظاهر الأخرى: أزمة الثقة التي تفشت بين التونسيين بكل طبقاتهم النخبوية والسياسية والبسيطة، والتي نلاحظها في برامج الحوارات السياسية على القنوات التلفزيونية، فالكل لا يثق في الكل، وهذا يجعل المواطن التونسي يفقد الثقة في الحكومة والسياسيين ويشعر بضبابية المستقبل.”

وفسرت الدكتورة ذلك بأن المواطنين يعتبرون أن الحكومة بمثابة الأب الذي تخلى عن دوره، فالتونسي يحتاج إلى شخصية كريزماتية تشعره بأنه محاط بالرعاية. وهذا مفقود في تونس خاصة في هذه الفترة بالذات.