يحاول المناضلون التونسيون ضدّ الاستعمار الفرنسي، إيصال أصواتهم إلى من يهمّهم الأمر. وهم يقولون إنّ فضلهم في إهداء الشعب التّونسي التّحرر من المستعمر وكرامة الحياة كان سابقاً لنضال شهداء وجرحى ثورة 14 كانون ثان/يناير 2011. لكن لا الأحزاب السياسيّة تتبنى مطالبهم ولا الحكومات المتعاقبة كرّمتهم، ولا المجلس التّأسيسي اقترح قانوناً لتعويضهم مثلما هو الشأن بالنسبة إلى جرحى الثورة وعائلات الشهداء.

يحاول المناضلون التونسيون ضدّ الاستعمار الفرنسي، إيصال أصواتهم إلى من يهمّهم الأمر. وهم يقولون إنّ فضلهم في إهداء الشعب التّونسي التّحرر من المستعمر وكرامة الحياة كان سابقاً لنضال شهداء وجرحى ثورة 14 كانون ثان/يناير 2011. لكن لا الأحزاب السياسيّة تتبنى مطالبهم ولا الحكومات المتعاقبة كرّمتهم، ولا المجلس التّأسيسي اقترح قانوناً لتعويضهم مثلما هو الشأن بالنسبة إلى جرحى الثورة وعائلات الشهداء.

ﺑﻠﻐﺖ ﺍﻟﺨﺴﺎﺋﺮ البشرية من الجانب التّونسي خلال معركة  التحرّر من الاستعمار (عام 1961) 670 ﻗﺘﻴﻼً ﻭ1155 ﺟﺮﻳﺤﺎً. بعض من شارك في معركة التحرير من أجل الكرامة، يعيش اليوم حياة أبعد ما تكون عن معاني الكرامة. فقد هُمّش حقّهم وتدهورت أوضاعهم الصّحيّة والاجتماعية والنّفسية، فبعضهم لا يملك بطاقة علاج والبعض الآخر ليس لديه مسكن في تراب تونس المستقلّة، وآخرون مشرّدون في الشوارع.

يستظهر المقاومون في كل مناسبة بشهادات تثبت مشاركتهم في معركة الجلاء ببنزرت (جلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية). لكنهم ما زالوا يتنقلون بين الإدارات الجهوية والمركزيّة طلباً للمساعدة بمنح أو بجرايات تقاعد أو شيخوخة. ولم ينتفعوا بأي مزايا للوثيقة الّتي تحصّلوا عليها اعترافا بنضالهم.

عبد اللّطيف الجبنوني، أحد الذين حملوا سلاح المقاومة في معركة الجلاء. تحدّث لـ”مراسلون” بثقة المجاهد الفخور بالمجد البطولي والممزوجة بمرارة المهانة والتّجاهل. كان في زيارة إلى مقرّ وزارة حقوق الإنسان بالعاصمة، حاملاً معه وثائق وآثار رصاص الاستعمار، على أمل أن يُنظر في ظروفه الاجتماعية القاسية.

فقد رغب الجبنوني في لقاء وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، سمير ديلو، الذي سمعه يتحّدث لوسائل الإعلام عن العدالة الانتقالية وتعويض المتضرّرين من النّظامين السّابقين للثورة منذ سنة 1959  ليطلب منه مساعدته على تحسين ظروفه الاجتماعية، وتمكينه من استغلال قطعة أرض فلاحية يشتغل فيها كأبسط تعويض له في نظره. 

واشتكى المقاوم من عجز بدني يصاحبه منذ أيّام معركة الجلاء، أقعده عن العمل. ويضيف أنّه لم يحصل على أية مساعدة مالية من الدّولة، نظراً لأن مسؤولي النّظامين السابقين قبل ثورة 14 كانون ثان/يناير، كانوا يحتكرون  توزيع المساعدات والهبات على المناضلين المنتمين إلى الحزب الحاكم دون غيرهم من خلال منحهم بعض المنح والرّخص التجاريّة والوظائف. 

حسين بن حدّة، أصيل معتمدية حفوز بالقيروان (وسط)، يتحدّث أيضاً عن ظروف اجتماعية قاسية. ويقول لـ”مراسلون” إنّه لا يتمتّع بأية منحة أو تغطية اجتماعية، وليس له مورد رزق ليكفل به نفسه وأسرته، رغم أنه يمتلك شهادة “مقاوم”. ويرى أنّ هذه الشهادة فقدت قيمتها عندما ينظر إلى حالته المزرية.

ومن جهته يعاني المناضل بلقاسم حاجي من ملازمة مرض السّكري له، مما جعله طريح الفراش دون أن يجد نفقات العلاج.

يخشى هؤلاء المناضلون أن يلقوا نفس مصير رفيقهم التّيجاني جبنوني (من حفوز إحدى مدن ولاية القيروان) الذي مات منذ شهرين دون أن يتمتع بتغطية اجتماعية.

ويصف هؤلاء المقاومون أنفسهم بأنهم مناضلون تصدّوا للمستعمر الفرنسي، وذادوا عن الوطن وتعرّضوا للرّصاص. ويؤكدّون أنه “لا فرق بينهم وبين جرحى ثورة 14 جانفي”، لأنّهم “وهبوا الشعب التّونسي نعمة الحرّية”. ويرون أنه قد حان الوقت لتعويضهم خاصة مع تقدمهم في السن. وهم يطالبون الإعلام بتسليط الضوء على معاناتهم.

 أمثال هؤلاء كثيرون في ولاية القيروان وفي غيرها من الجهات التونسية. وتختلف قصصهم لكن تشترك من حيث المعاناة.  

جمعة بن عثمان الجهيناوي (73 سنة)  يقول لـ”مراسلون” إنه “تحوّل من مناضل ضدّ المستعمر إلى مناضل من أجل حقوقه في الحياة”، فهو يطالب بحقّه في سكن لائق، وحقّه في جراية تحفظ كرامته، وحقّه في حياة طيبة وآمنة. بل يرى من حقه أيضا أن يتزوج ليعيش في كنف الدفء العائلي الذي حرم منه سنوات بسبب ظروفه المادية.

وجدنا “جمعة” صدفة نائماً فوق سدّة محطّة الحافلات، وكان يفترش “جزءاً من صندوق صنع من ورق مقوى”، ويتوسّد كيساً صغيراً فيه قطع ثياب، أخرج منه لفافة أوراق ثمّ نشرها.  يقف جمعة على قدمين حافتين، جسمه يرجف في رعشة مرضيّة، تكسوه خرق بالية. يكاد يفقد بصره، كما فقد شعره لون السّواد.

يسترجع ذكريات مشاركته في معركة الجلاء قبل نصف قرن، حينما كان شاباً يافعاً. يعتبر أنه لبّى نداء الوطن وساهم في طرد المستعمر، لكنه عندما بلغ أرذل العمر لم يجد من يلبّي نداءه.

يتمسّك الجهيناوي بالمطالبة بحق التعويض عن النضال، حيث يرى أنّ المقاومين طردوا المستعمر وخلصّوا البلاد من ظلمه تماماً مثلما أطرد جرحى الثورة والشهداء الرّئيس الفار بن علي وأسقطوا نظامه. وبالتالي فهو يعتبر أن من حقّ مقاومي الاستعمار أن تشملهم التعويضات المالية، خاصة مع شيخوختهم وعجزهم البدني.

توجّه موقع “مراسلون” إلى مركز الإحاطة الاجتماعية بالقيروان، بحثاً عن  أيّ مكتب قد يهتم بالمقاومين. لكن أحد العاملين هناك أكد أنّه لا توجد مصلحة ولا مكتب ولا برنامج اجتماعي مخصّص لهؤلاء المناضلين. وقال إنّه يتمّ التّعامل معهم على أساس أنّهم مواطنون عاديّون مسنّون. وعليه يتوجّب على أمثال هؤلاء أن يتّصلوا بالمكاتب المحلّيّة ويقدّموا مطالب ووثائق للحصول على مساعدة اجتماعية مثل غيرهم دون امتياز أو استثناء خاص بهم.

عبد اللطيف الجبنوني كان قد أوضح لـ”مراسلون” أنّ الّذين اتبعوا بورقيبة تمتعوا بامتيازات كثيرة. بينما من عارضه أو خالفه وخصوصاً من أنصار غريمه التاريخي صالح بن يوسف، صاروا من المغضوب عليهم، وتناست السلطة مساهمتهم في حرب الجلاء.

وهذا ما أكده محمود الوسلاتي، رئيس فرع الرّابطة التّونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان بالقيروان. وبيّن أنّ الّذين ساندوا بورقيبة ضدّ صالح بن يوسف تمتّعوا بعديد الامتيازات والهبات، في حين أنّ من عارضه أضحى من المغضوب عليهم. وقال إنّ هؤلاء لم يحصلوا على مرتّبات ولا على جرايات. وقال الوسلاتي: “لا أحد يُعنى بهؤلاء المقاومين، ولا أحد يستمع إلى استغاثتهم”.

ويقول جوهر السنوسي حفيد الشهيد الصّادق السّنوسي الّذي اغتيل غدرا سنة 1954، إن أسرتهم تطالب السلطات التونسية بتكريم يليق بنضاله وسيرته. ويقترح أن يتمّ تدريس سيرة الشهداء للتلاميذ وأن يعاد كتابة التّاريخ الّذي يراه “محرّفاً لأغراض سياسيّة”. ويعتبر أنّ من حقّ أسر شهداء الاستقلال أن تفخر بهم الأجيال المتعاقبة وأن تساهم الدّولة في إعلاء شأنهم وتكريمهم ورد الاعتبار لهم على الصّعيدين المادّي والمعنوي.

ويرى بعض الحقوقيين أن المسؤولين يتحدثون على مستوى جهوي ومركزي، عن حقّ هؤلاء المناضلين في الإحاطة الاجتماعية وردّ الاعتبار لهم، لكن عملياً لم يتمّ اتخاذ أي قرار لفائدتهم رغم فتح الملف في إطار العدالة الانتقاليّة.

وقال المحامي حمّادي الشريف المكلّف بديوان وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، لـ”مراسلون” إنّ عدداً من المناضلين قابلوا الوزير، وطالب بعضهم بتخصيص منح اجتماعية وآخرون طالبوا باستعادة منحهم التي لم يتسلموها منذ الثورة بعد أن كانوا يحصلون على منح من الحزب الحاكم المنحلّ بشكل غير قانوني حسب رأيه.

وتحدّث الشريف عن وجود حوار بين وزارة حقوق الإنسان ووزارة الشؤون الاجتماعيّة ورئاسة الحكومة بهذا الخصوص. وكشف عن وجود مشروع قانون بصدد الدّراسة وفي انتظار عرضه على المجلس الوطني التّأسيسي.

وشدد النّائب في المجلس الوطني التّأسيسي محمود قويعة (حزب النّهضة الحاكم)، على واجب الدّولة في إنصاف المقاومين وفق سياسة العدالة الانتقاليّة. وأشار إلى ضرورة إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنيّة متحدّثاً عن تزوير وعن “توسيم” بعض الشخصيّات القريبة من النّظام وتهميش المعارضين وقمعهم مثل “الفلاّقة” و”اليوسفيين”.

وبيّن بخصوص مشروع قانون العدالة الانتقاليّة أنّه يشمل المقاومين منذ 1956 إلى غاية تاريخ المصادقة عليه. وقال “يجب إعطاؤهم حقّهم وردّ الاعتبار لهم وتكريمهم”.

وكان الرّئيس التّونسي المنصف المرزوقي قام بتكريم بعض المناضلين خلال ذكرى الاستقلال 20 آذار/مارس 2013 وحاول أن ينصفهم، لكن هذا التكريم لم يصبح سياسة تتبعها الدولة وفق قوانين مضبوطة بعد.