تجاوزت مريم العقد الرابع من العمر. هي تسكن منزلا يطلق عليه مجازا “بيت”. مع كل فجر جديد تستيقظ في رحلة نحو أعالي الجبال المحيطة التي تبعد عنها كيلومترات في رحلة تقطعها مشيا على الأقدام. لاتبالي بحذائها الممزق الذي لا يقيها صقيع الشتاء، ولابلباسها الأسود الذي يعكس لونه الأيام الحزينة التي قضتها بين منحنيات تلك الجبال الشاهقة، فشجيرة الحلفاء هي هدفها الوحيد من هذه الرحلة.

تجاوزت مريم العقد الرابع من العمر. هي تسكن منزلا يطلق عليه مجازا “بيت”. مع كل فجر جديد تستيقظ في رحلة نحو أعالي الجبال المحيطة التي تبعد عنها كيلومترات في رحلة تقطعها مشيا على الأقدام. لاتبالي بحذائها الممزق الذي لا يقيها صقيع الشتاء، ولابلباسها الأسود الذي يعكس لونه الأيام الحزينة التي قضتها بين منحنيات تلك الجبال الشاهقة، فشجيرة الحلفاء هي هدفها الوحيد من هذه الرحلة.

فمنذ أن ركب زوجها أمواج البحر في رحلة غير شرعية إلى إيطاليا، وسماعها نبأ انضمامه إلى إحدى عصابات المافيا الناشطة في بيع وترويج المخدرات، فقدت كل أمل في عودته أو مساعدته لها ماديا أو حتى سؤاله عن أبنائهما. وبعد أن كانت تخشى القيود البدوية قررت مريم  الخروج إلى العمل من أجل البحث عن رزق تعيل به أسرتها ذات التسعة أفراد، وكانت تلك الشجيرة الصغيرة التي يبلغ طولها حوالي النصف متر هي أملها الوحيد في إطعام أبنائها.

في مواجهة الحلفاء

تقاسيم وجه شاحب عليه أثار وشم قديم ويدان تخدش من يلامسها تروي قصة صراع مريم مع شجيرة الحلفاء ذات الأطراف الحادة.

[ibimage==5214==Small_Image==none==self==null]

يدا مريم

فرغم قساوة المناخ شبه الصحراوي في تلك المناطق وسط غرب ولاية القصرين، تتجه هذه السيدة يوميا نحو أعالي الجبال المحيطة حيث تمتد الشجيرات لتغطي مساحات هامة، وتقضى ساعات طويلة في اقتلاعها. بعد ذلك تقوم بجمع الحلفاء وحملها في حزمة كبيرة تنهك جسمها النحيل.

ويبلغ ثمن تجميع مائة كلغ من الحلفاء وتقديمها الى مصنع الورق عشر دنانير تونسية (حوالي 7 دولار أمريكي)، لذلك تبيع الخالة مريم ما تجمعه إلى أصحاب السيارات الخاصة المارين من المكان والذين يبيعونه بدورهم للفلاحين قصد استغلاله كأعلاف للمواشي.

وهي تدرك أن شغلها اليومي لتأمين لقمة العيش لا يحظى بموافقة السلطات الحكومية التي تحظر اقتلاع هذه النبتة بشكل عشوائي، لكنها تقول إنها لا تجد طريقة أخرى للعيش.

ومنذ أن سقطت ابنتها طريحة الفراش بسبب إصابتها بمرض جراء المواد الخطيرة المتسربة من وادي معمل عجين الحلفاء والورق بالقصرين، باتت لا تأبه للقرارات الحكومية التي تناست، حسب قولها، حقوق أهالي تهددهم الأوبئة وشتى الأمراض.

الخوف من نفس المصير

في زاوية مظلمة من كوخ الخالة مريم اعتاد ابنها سالم الجلوس على كرسي خشبي قديم ليمسك سيجارته وهو يحدق بزوايا الغرفة. فهو لم يكن يتوقع يوما بعد حصوله على شهادته الجامعية أن يكون أحد شخصيات المسرحية التي شاهدها منذ نعومة أظافره بينما كان تلميذا في صفوف التعليم الابتدائي.

يقول ان تلك التراجديا التي شاهدها وهو صغير باتت واقعا تتوارثه الأجيال يوما بعد يوم بسبب الصورة القاتمة التي تحيط بهم وخاصة تفشي البطالة.

لقد كان سالم مكرها على أن يصبح حمالا في أحد “مناشر” الحلفاء ويقوم بجر عربة حديدية ضخمة قبل أن يقع ربطها فيما بعد وتحويلها إلى الشاحنة التي تنقلها إلى مصنع الحلفاء والورق، ويختصر سالم معاناته في العمل قائلا : “يلعن بو الحلفاء!”.

ويتابع “هل أن من يكتب على كراس الورق الأبيض قادر على ان يتخيل يوما  حجم معاناة مريم”.

كارثة طبيعية

 في جولته الاستطلاعية في منطقة “السباسب” يتميز العم صالح بلباسه الأخضر الذي يتراءى لكل الاهالي من مسافات بعيدة. إنه رجل قوي البنية يتجاوز العقد الخامس من العمر مكلف من قبل إدارة الفلاحة بعدم السماح باقتلاع شجيرة الحلفاء إلا في المواسم التي تقررها الإدارة الفلاحية قصد مراقبة التجاوزات.

يقول العم صالح لـ “مراسلون” إنه غالبا ما يتناسى مهنته ويسمح ببعض التجاوزات لأنه “يدرك جيدا حجم معاناة تلك القرى النائية الفقيرة”.

لكن شخصية العم صالح غير محبوبة في نظر تلك الأوساط الاجتماعية لأنها تمثل سلطة الدولة التي لطالما عجزت عن توفير العيش الكريم.

ويوضح العم صالح  أن تهريب الحلفاء يشكل كارثة اقتصادية وصناعية لما يمكن أن ينجر عنه من فقدان الورق بسبب استعماله كأعلاف من طرف الفلاح وكذلك بسبب اقتلاعها على مدار السنة خلافا للإرشادات المعمول بها.

الحلفاء مصدر العيش

وتعيش مئات العائلات في القصرين من عمليها مصنع الحلفاء وعجين الورق من ذلك 780 عاملا بصفة قارة وحوالي 1400 عامل في 70 منشر حلفاء. 

ويبلغ حجم ديون هذه المؤسسة حسب مصادر نقابية 47 مليون دينار تونسي (الدينار يساوي 0.7 دولار). كما بلغت ديون هذه المؤسسة لفائدة شركة الكهرباء والغاز حوالي 17 مليون دينار.

هذا العجز يعطل أيّ اتفاق بين الحكومة ونقابة المؤسسة حول منحة الخطر المعروفة تحت اسم منحة “الكلور”.

وترى بعض المصادر من الشركة أنه من غير الممكن تقديم هذه المنحة في وقت قدم فيه وزير الصناعة مشروعا لإنقاذ المؤسسة ماليا وينتظر طرح هذا الملف في مجلس وزاري قادم.

وتنتج منطقة حاسي الفريد بولاية القصرين (الوسط الغربي) أكثر من 80 بالمائة من كمية الحلفاء التي يقع تحويلها لمعمل عجين الحلفاء والورق الذي تأسس سنة 1963 (وهو الوحيد الموجود في تونس الى الآن).  وبحسب ديوان  تنمية الوسط الغربي (مؤسسة حكومية تتبع وزارة الفلاحة) تحتل حاسي الفريد المرتبة الاخيرة، وطنيا، في مؤشر التنمية.