إذا سلكت الطريق الرئيسي نحو منطقة وردامة التي تبعد خمسة كيلومترات عن مدينة البيضاء (200 كم شرق بنغازي)، ثم انعطفت يميناً ناحية طريق ترابي تتكوم على أحد جانبيه أكياس القمامة، ونظرت عن يسارك إلى مبنى مطحنة الحبوب الضخم، فأنت إذن في حي المطحنة أو حي “التريلات”!

إذا سلكت الطريق الرئيسي نحو منطقة وردامة التي تبعد خمسة كيلومترات عن مدينة البيضاء (200 كم شرق بنغازي)، ثم انعطفت يميناً ناحية طريق ترابي تتكوم على أحد جانبيه أكياس القمامة، ونظرت عن يسارك إلى مبنى مطحنة الحبوب الضخم، فأنت إذن في حي المطحنة أو حي “التريلات”!

[ibimage==5250==Small_Image==none==self==null]

توسع في بناء بيوت الصفيح

هذا الحي كان قبل عقود يتكون من بيوت جاهزة سكنها عمال شركة ألمانية اشتغلت بالمطحنة، ثم حزموا أمتعتهم وغادروا قبل ما يزيد عن 15 عاماً، فوُزعت البيوت على العمال الليبيين الذين حولوا كل شبر في الحي إلى مكان للسكن، بما في ذلك مستودعات الصفيح المخصصة للأكل والمطابخ.

ومع استفحال أزمة السكن في المنطقة قام العديد من أرباب العائلات التي لا مأوى لها، ببناء بيوت صفيح داخل الحي، ما جعله يكتظ ويتوسع شيئاً فشيئاً حتى أضحى على حاله اليوم.

وفي حين كان هناك دائماً مشترون جدد يقبلون على شراء هذه البيوت المتهالكة والسكن فيها، كان وضع البنية التحتية للحي يزداد سوءاً، حتى صارت مخلفات الصرف الصحي تُطلق خلف البيوت دون شفطها أو التخلص منها.

السقوف تدلف

غيث قاسم يقطن بالحي منذ تسع سنوات، يقول “رغم توقف مطحنة الحبوب عن العمل فإن الفئران لازالت تأتي من داخلها، ورائحتها المنتشرة داخل البيت سببت المرض لابني”، ويضيف “المواد اللاصقة المستعملة في صيد الفئران منتشرة في أرجاء بيتي”.

مواصلة الرحلة بالسيارة تبدو مهمة مستحيلة لضيق الطريق.  رافقنا سليمان محمد إلى منزله المتواضع. السقف الخشبي كان متضرراً من الأمطار التي اشتكى دخولها حتى من تحت الجدران. كان يشير إلى أطفاله المتحلقين حولنا، قائلاً “يمرضون نتيجة البرد القارس”.

جاره أبو بكر الصالحين القاطن بالحي منذ عشرة سنوات، يشتكى من عدم قدرة سيارة الصرف الصحي على الوصول إلى خزان التصريف الخاص ببيته، ما حدا به إلى تصريف مياه المجاري خلف البيت. هل زاركم أي مسؤول؟. “لا”، يجيب  سليمان هازا برأسه، ويتابع “قام المجلس المحلي بتسجيل أسمائنا في كشوفات ولازلنا ننتظر”.

سليمان و أبوبكر هما من ضحايا شركات القطاع العام الليبي التي أفلس كثيرٌ منها في تسعينيات القرن الماضي، وتصرف لهما إعانات من محفظة استثمارية حكومية تقدم معونة غير منتظمة لأمثالهما.

ورغم الظروف الصعبة التي يرزحان تحتها يقول سليمان “نحن لا نريد أن نقتحم مؤسسات الدولة أو نغلق الطرق، فالثورة لم تكمل عامها الثالث والصبر جيد، لكننا نرى أموالاً تصرف، ولا نعرف أين تذهب”.

أكواخ مستأجرة

حال بيتي سليمان وأبو بكر يبدو يبدو أحسن حالاً من القسم الثاني للحي الواقع عن يسار المطحنة، حيث السكان مستأجرون وليسوا مُلاكاً للأكواخ.

[ibimage==5256==Small_Image==none==self==null]

شبكة كهرباء عشوائية

البيوت المبنية حديثاً بمحاذاة الطريق الرئيسي تحجب القسم الثاني من الحي عن الرؤية، كأنها تخشى أن تشوه الأكواخ المشهد العام، لكن ما أن تصير في وسطه حتى يتجمهر سكان الحي حولك لينقلوا شكواهم.

ستة أكواخ احترقت خلال الشتاء، يقول الأهالي، مشيرين إلى توصيلات الكهرباء العشوائية التي تشكل شبكة من الأسلاك فوق رؤوسهم.

فوزي علي، أب لثلاثة أطفال، يستأجر بيتاً تحيطه أسلاك كهرباء بالكاد ترتفع مترين عن الأرض. يقول لـ “مراسلون” “منذ تسع سنوات وأنا أدفع 80 ديناراً (60 دولار أمريكي) كإيجار شهري لبيت من الصفيح. مياه الشرب تزورنا يوماً لتغيب عشرة، ولا تصلنا قبل أن يوقف أصحاب البيوت الواقعة على الطريق الرئيسي مضخاتهم الكهربائية”.

الجمع المتجمهر يشتكي ايضا من مياه الأمطار التي تدخل منازلهم، ومن الزواحف والفئران المنتشرة بكثرة، ومن الكلاب التي تملأ الحي كل مساء وتجبرهم على ملازمة بيوتهم، إذ يضطرون لإطلاق مياه المجاري خلف الأكواخ، في غياب شبكة صرف صحي أو خزانات للتصريف.

ذهبنا وراء أحد البيوت حيث تصرف مياه المجاري في الخلاء الذي يتخذ منه أطفال الحي مرتعاً لهم يربون فيه قططاً سائبة، وهناك وسط الروائح الكريهة أطلعنا إدريس سعد على ملف مليء بطلبات قدمها سكان الحي للمسؤولين وبعضها يرجع للعام 2003.

إدريس الذي يدفع منذ 13 سنة مبلغ 100 دينار ليبي كإيجار شهري نظير إقامته بمنزل من الصفيح، قال إنه تلقى خلال تردده على مكاتب المسؤولين وعوداً عديدة بتسكينهم في شقق سكنية كانت في طور البناء.

وبحسب إدريس أُنجزت عمليات بناء الشقق ووزعت، ولم ينل إلا عدد بسيط من المحتاجين أمثاله شقة جديدة.

و أضاف “لقد ذهبت بعد الثورة أكثر من مرة للمجلس المحلي لمدينة البيضاء، لكنني لم أتلقَ أي رد ولم يقم المجلس بزيارتنا حتى الآن”.

أجواء مشحونة

صبيحة اليوم التالي توجه “مراسلون” لمقر المجلس المحلي للمدينة. الأجواء هناك كانت مشحونة والسؤال عن مصير سكان الأكواخ والأحياء العشوائية كان يزيدها توتراً.

لم نستطع التواصل مع عضو المجلس المحلي موسى العريفي الجالس خلف مكتبه محاطاً بمراجعين بينهم عجائز تشتكين من الإهمال بعد ما وصفنه بتضحية أبنائهن خلال الثورة، فغادرنا على أن أعود قبل نهاية الدوام.

قرابة الساعة الثانية ظهراً التقينا العريفي، وأوضح الرجل أن الإسكان هو المشكلة الأساسية التي تعاني منها المدينة. وأرجع ذلك إلى أن النظام السابق عمل على أن لا تكون هناك مخططات سكنية فيها منذ 1979 بدعوى أنها منطقة سياحية، وإلى تعطل المخططات السكنية الجديدة بسبب اندلاع الثورة.

من يدري؟

يقول العريفي إن المجلس شكل لجنة قامت بحصر 921 عائلة من المقيمين في أكواخ بحيي “الطوارئ” و “شاهر روحه” العشوائيين، وأصحاب الأكواخ التي تمت إزالتها من قبل الدولة  مقابل تسكينهم في بيوت صحية.

ويضيف “سلمنا الأسماء المحصورة من قبل اللجنة لرئاسة الوزراء، وحصلنا على موافقة بإعطائهم قروض شراء بقيمة 120 ألف دينار”.

لكن عدم وجود ضمانات يقدمها هؤلاء كرهن للمصارف مقابل قيمة القرض شكل عائقاً قانونياً، تعمل على حله اللجنة القانونية برئاسة الوزراء بحسب العريفي الذي يؤكد “أن رئاسة الوزراء وعدت بتذليل العائق خلال فترة بسيطة”.

العريفي كشف لمراسلون أن ست عائلات فقط من أصل أربعين في حي المطحنة، وهي العائلات التي احترقت بيوتها بالكامل، وأرجع السبب  إلى أن عدد العائلات المحتاجة إلى مساكن في المدينة يصل إلى سبعة آلاف عائلة، ما حدا بهم إلى البدء بالعائلات الأكثر احتياجاً.

بكن ما الضامن أن تصل هذه القروض لمستحقيها في بلد يشتكي فقراؤه من عدم استفادتهم من خيراته؟. يجيب العريفي “المجلس المحلي قدم لرئاسة الوزراء مقترحاً باعتماد نظام النقاط في حل مشكلة السكن، بحيث تكون الأولوية في توفير السكن حسب قيمة المرتب الشهري للعائل وعدد أفراد الأسرة والاحتياج القاهر وعائلات الشهداء والمعاقين”.

انتهت المقابلة مع نهاية الدوام الرسمي، وأثناء مغادرتنا مبنى المجلس كانت إحدى العجائز تجلس قرب المدخل كأنها تنتظر شيئاً من السماء. “ترى هل ستحصلين أخيراً على مُرادك يا أماه؟”. لا أحد يدري.