انتهت الحرب ولكن متى يستوعب “الثوار” كلمة الشعب: “شًكًرَ الله سَعيَّكم”، فليبيا الآن تحتاج للبناء لا السلاح الذي بأيديكم والذي يعيث بالبلاد فساداً وقتلاً وترويعاً، أم أنهم سيقاتلون حتى آخر رجل؟

انتهت الحرب ولكن متى يستوعب “الثوار” كلمة الشعب: “شًكًرَ الله سَعيَّكم”، فليبيا الآن تحتاج للبناء لا السلاح الذي بأيديكم والذي يعيث بالبلاد فساداً وقتلاً وترويعاً، أم أنهم سيقاتلون حتى آخر رجل؟

“ياسلام !”، قالها القذافي من قبلهم والدهشة والغضب يملآن وجهه، رداً على الليبيين الذين قالو له “شكر الله سعيك”. لقد استغرب أن يتمرد عليه الشعب وهو “المناضل والثائر والزعيم الأوحد”، والذي طيلة أربعين عاماً لم يسمع من الشعب إلا الهتاف والتمجيد والتأليه أينما وطئت قدماه. لم يكن من السهل أن يستسيغ تلك المقولة، فأقسم بأنه سيكون “الصخرة الصماء” وأنه أبداً لن يتخلى عن منصبه إلا ميتاً، وقد فعلها، ولم يغادر العرش إلا مضرجاً بدمائه.

انتصر محاربوا “ثورة فبراير”، واستقبلهم الشعب استقبال الأبطال الفاتحين، واستأنفت الجموع ووسائل الإعلام الخاصة والعامة رحلة الهتاف والتمجيد وضرب الدفوف للمنتصرين الجدد، رغم أن تلك الهتافات والأهازيج هي ذاتها القديمة مع بعض التحوير والتعديل، فامتلأت صدور المحاربين بالنشوة، وأدرك “الثوار” كم هي مُسكِرَة “نشوة السلطة” و”هتاف الجموع”، وأحسّوا بأنهم قد ارتقوا من الحضيض إلى مصاف الأنبياء والملائكة وربما أكثر من ذلك.

مرت أيام نشوة النصر وغنائمه ونعيم السلطة وإغوائها بسلام، إلى أن اصطفت الجموع في طوابير “صندوق الإقتراع”، وكم كانت مزعجة الديمقراطية وطقوسها واختيارات الشعب، فهي وحدها من عكرت صفو “الثوار” المتألهين الجدد، وأدركوا كم هي مؤلمة صرخة الشعب التي انتفض منها القذافي قبلهم: “شكر الله سعيكم أيها السادة الثوار”، وما كان منهم إلا أن رددوا ذات الكلمات وبذات الدهشة ومسحة الغضب وقالوا: “يا سلام!”. نحن المناضلين الثائرين من حرر ليبيا شبر شبر، ومعنا بنادقنا، وسنبقى متشبثين بسلاحنا حتى آخر رصاصة وآخر رجل.

ما الذي حدث؟ أليست ثورة فبراير “ثورة شعب بأسره” ضد الظلم والطغيان، ومن أجل إقامة دولة العدل والقانون والمؤسسات، فكيف أصبحت حكراً على “ثلة من المسلحين” نصّبوا من أنفسهم أوصياء على الشعب وعلى “الثورة” وحُمَاة لها، ليتحكموا في رقاب الشعب ومصيره؟

ولكن، ندرك جيداً بأن هؤلاء “الواهمين” ما خلقوا إلا لأداء هذا الدور، وليكونوا مجرد “مجاميع كومبارس تهيم بأسلحتها في الشوارع” لصناعة الفوضى وبث الرعب وممارسة الترويع، لغاية في نفس اللاعبين الأساسيين في المشهد الليبي، فأين هو الشعب المعني بهذه الثورة؟ 

لن يتخلى هؤلاء عن سلاحهم – إلا من رحم ربي – وسيقاتلون كما قاتل القذافي حتى آخر رجل. لأن من توهم بأنه ارتقى إلى “مصاف الآلهة” لن يطيب له العيش بين صفوف الرعاع، ولن يقف في طابور الخبز أو طوابير الاقتراع . وهذ ما حدث لـ “الثوار الأشاوس”..

عامان من التأليه والتمجيد وأناشيد الحماسة والمدح والرقص فوق أعناق الشعب، فتوهموا أنهم قد أكلوا من شجرة “الخلد”، ولكن ما من ورق يستر سوآتهم بعد أن ادعوا أنهم ثاروا على الظلم فمارسوا ظلماً أشد وأعنف، وادعّوا نُصرَة الحرية والعدل فملؤوا السجون بالأبرياء، وأفرغوا القرى من أهلها وعاثوا في الأرض فساداً وقتلاً وترويعا. ووجد “المحاربون” في شعارات القذافي ومنهجه في الحكم ضالتهم، فأعادوا إنتاج مفاهيمه والسير على خطاه، لعلها تمنحهم أربعين عاماً أو يزيد من “الشرعية الثورية” أسوة بسلفهم.

وظهر من جديد شعار “الثورة مستمرة وثوار إلى الأبد” على غرار “الفاتح أبداً” واستحدثوا “مجلساً أعلى للثوار” على غرار “مجلس قيادة الثورة” الذي ظل يتزعمه القذافي حتى مقتله، وجعلوا من كتائب الثوار في كل مدينة وكل حي أسوة بشعار اللجان الثورية في كل مكان.

ومنهم من استبدل “تسريحة الكيرلي” باللحية، ومنهم من فضل قبعة تشي جيفارا، وآخرون تسامحوا في ارتداء الشنّة (المحرر: القبعة التي تُلبس مع الزي الليبي وتميز بارتدائها المستشار مصطفى عبد الجليل أيام الثورة)، اقتداءً وتماشياً مع الروح “الفبرايرية الجديدة”. تغيرت التواريخ والأسماء وبقي الهوس الثورجي، وغابت ليبيا من جديد.

عادت للذاكرة الليبية مداهمات اللجان الثورية في ثمانينات القرن العشرين، وما كان يُعرَف بـ”زوار الفجر” المسلحين في عهد القذافي أصبحوا اليوم في نسختهم “الفبرايرية” يقتحمون البيوت والمؤسسات العامة والخاصة في وضح النهار، بحثاً عن المعارضين وكل الممتعضين والرافضين لطغيان الثورجيين الجدد.

وباسم الشرعية الثورية تنتصب البوابات وفرق التفتيش والخطف والتغييب والقتل تحت التعذيب والاستيلاء على البيوت والمزارع والممتلكات الخاصة والعامة، ولم تسلم حتى السيارات والممتلكات الشخصية من حق المصادرة باسم الثورة المجيدة.

وتبرير هذه الانتهاكات لاتختلف عن تبريرات القذافي، ففي لقاء قديم له بقناةBBC  نشِر حديثاً على اليوتيوب، عندما سؤل القذافي عن موقفه من الانتهاكات والجرائم والاغتيالات التي ترتكبها عناصر اللجان الثورية في تلك الفترة، رد القذافي إن ممارسات هؤلاء لا تمثل الثورة أو الدولة الليبية، وإنما هي تصرفات شخصية وهو يستنكرها.

وحرفياً نسمع نفس الرد هذه الأيام من “ثوار فبراير” ويذهبون إلى أبعد من ذلك ليقسموا أنفسهم ما بين ثوار حقيقيين وغير حقيقيين. ثوار حقيقيين هم حماة الثورة – حسب زعمهم – وثوار غير حقيقيين هم من يرتكبون جرائم السطو والسرقة والخطف والقتل وترويع الآمنين.

وحتى لوكان هذا التصنيف صحيحاً فإن الفئة الأولى هي من توفر المناخ الآمن للعصابات التي تحترف الجريمة وارتكاب الانتهاكات المريعة في البلاد، بعد أن تحولت الثورة في ليبيا إلى مهنة وطريقاً قصيرا للثراء السريع.

فلو أراد هؤلاء “الثوار الحقيقيون” المساهمة الجادة في بناء دولة القانون والمؤسسات لكانوا قد تنحوا جانباً وسلموا السلاح، ولما استحدثوا هذه الأجسام الغريبة عن الدولة، وما تسمى بالمليشيات أو الكتائب ومجالس عسكرية لا تمت للدولة بصلة.

إنها امتيازات السلطة وغنائم الثورة المستمرة أبداً، ما يجعل الكثيرين يتشبثون بالسلاح والعتاد لمقارعة الدولة وإملاء شروطهم ومطالبهم. وكما قال سلفهم فقد دفعوا ثمن بقائهم ولتذهب البلاد للجحيم. ولا ننكر أنه ربما يكون من بينهم المخلصين الجادين ممن يغارون على بلدهم، ولكن هؤلاء تحولوا إلى دُمَى هم أنفسهم لا يعلمون الأطراف التي تحركهم.

بالفعل .. لقد تحول كثير من “الثوار” إلى مجرد دُمَى مُسلّحة يتم استخدامهم وتحريكهم ودون أن يشعروا لتدمير بلادهم. لقد تمت زراعة الرعب في قلوبهم، وجعلوا من عودة القذافي ونظامه رعباً يقض مضاجع هؤلاء الشباب. وكثير منهم اقتنع بالتشبث بالسلاح والتمترس في كتائبهم لأن الخوف من عودة القذافي تحول إلى فوبيا ورعب هستيري لا مبرر له.

لقد شبع الرجل موتاً كما يقال، ولا يعلمون بأن الغاية الوحيدة من بث الرعب في قلوب هؤلاء الشباب المسلحين هي إقناعهم بعدم التخلي عن السلاح، بغية استمرار الفوضى وكسب مزيد من الوقت لتتحول ليبيا الى “عراق جديد”، والذي مرت عليه أكثر من عشر سنوات ولازالت أطراف الصراع تستخدم فزاعة صدام والبعث إلى يوم يبعثون، حتى يستمر مسلسل النهب والاستنزاف، وحتى يستمر تعطيل المؤسسات القضائية والرقابية وحتى لا تقوم للدولة قائمة.

اطمئنوا، رغم تكدس السلاح في بيوتكم، فإنكم أبدا لن تقاتلوا صفاً واحداً دفاعاً عن ليبيا كما فعلتم أول مرة. فكما نجحوا بتفيت العراق شيعاً وطوائف متناحرة نجحوا فعلاً بتفتيت ليبيا ما بين علمانيين وسلفيين وصوفيين وإخوان وما بين شرق وجنوب “مظلومين” وغرب “مترفين” – كما يسوّق الإعلام الجديد – وما بين تبو وعرب وأمازيغ وخذ ما شئت من انتماءات قبلية وهويات فرعية متناحرة، فليبيا لم تعد واحدة. وباسم “التعددية” بتنا ننعم بتنوع عنصري وشوفينية جهوية وكل فريق بما لديهم فرحون ومطمئنون لقدرتهم العسكرية على ردع الآخر، “الآخر الليبي” وليس الأجنبي بالطبع.

كل يمتشق السلاح بحجة أنه “ثائر”، وفي الحقيقة إن ما يفعله هؤلاء في ليبيا كمن يقدم على الانتحار خوفاً من أن يُقتَل. فهُم يتشبثون بالسلاح بحجة “الحرص والخوف على ليبيا” ولا يعلمون بأنهم هم من يدمرونها ويحولونها إلى مستنقع للاقتتال والجريمة والفساد.

وبالطبع لن يسلم السلاح أي من الأطراف طالما هناك طرف آخر يتشبث به تحت أي ذريعة. وتحت مظلة انتشار السلاح والفوضى الأمنية المفتعلة يوفرون البيئة الملائمة للنزاعات القبلية والنهب وتعطيل مؤسسات الدولة وتعطيل الاقتصاد وتدمير البلاد وتحويلها الى صومال أو عراق جديد … أفلا تتعظون!

ولكن، من سيعيد الروح لثوار تحولوا للأسف إلى مجرد دُمىً مُسلحة؟ وأصبحوا بيادق يتساقطون غير مأسوف عليهم على رقعة السياسة القذرة، ومجرد أذرع عسكرية للأحزاب والشخصيات المتهافتة على السلطة؟.. من سيعيد؟