محاورة سامح سعيد عبود، اقرب للغوص في تجربة نقدية شخصية عنوانها تحولات التاريخ السياسي اليساري المصري في ثلاثين عاما. فهو المنتمي والمتجول بين ثلاث تنظيمات ماركسية منذ بداية الثمانينات، من تنظيم 8 يناير المتمرد على جيل الحركة الشيوعية الثاني عام 1982، إلى الانتساب لحزب الشعب حتى عام 1991، وصولا إلى تنظيم الاشتركيين الثوريين في التسعينيات، وجميعها انتج مراجعة نظرية جذرية للنظرية اللينينية بحسب “عراب الأناركية المصرية”.

فنموذج تدخل الدولة الاشتراكية السوفيتية “اعادني لمجمل علاقة الدولة الحديثة في انقاذها للمشروع الرأسمالي، من بسمارك ألمانيا إلي ميجي اليابان وصولا إلي محمد علي وناصر في مصر”، يقول عبود.

ويضيف “اتذكر اني كنت أدرس مادة اسمها التعاون بكلية الحقوق، التعاون كمضاد للاستبداد الرأسمالي، التعاونية كضمان للحرية الانسانية، وبعد جولة بالتنظيمات الحزبية، والتي لا أعاديها على إطلاقها، لم أستطع تفهم سلوكيات عديدة تستنزف اليساريين”.

الفارق بين التحررية الجماعية والاناركية

بميل أصيل إلى الوحدة، ونقد عنيف للسلوكيات التنظيمة، ومع اكتشافه المبكر للانترنت، طور سامح عبود لغته الانجليزية وقرأ بها، وتعرف على مصادر للتحررية الجماعية، فصمم في عام 1998 موقع “التحررية الجماعية”، وأثار نشاطه على الانترنت سخرية الرفاق حيث وصفوه بـ” المناضل الالكتروني”.

يشرح عبود المصطلح الذي طوره نظريا وعربه قائلا “هي حزمة مترابطة من الأفكار تتخلص فى تعميم المبادىء التعاونية فى الإنتاج والخدمات، اللامركزية الإدارية، الديمقراطية المباشرة وشبه المباشرة، دولة حارسة في حدودها الدنيا، واحترام حقوق وحريات الإنسان. وهي جميعها مفاهيم قريبة جدا من الاشتراكية التحررية الأناركية، وإن لم تتطابق معها تماما طبعا فى رؤيتها النهائية”.

ما يثير حنق سامح من بعض من يطلقون على انفسهم “اناركيين” هو عدم بذلهم مجهود في نقد الواقع وبالتالي اختبار افكارهم وانتمائتهم، كي لا تصبح “الاناركية” مجرد موضة.

ويشرح نقده قائلا “عندما تطرح يوتوبيا فمن الضروري ان تقدم نقدا جذريا للواقع، من الطبيعي أنك تدرك أن النموذج الذي تطرحه لن يتم تطبيقه غدا، ولكن في النهاية خطوة نقد الواقع هي خطوة أساسية، تليها مرحلة  كيف يمكن تغيير هذا الواقع، خاصة ونحن نتكلم عن الحالة المصرية، كيف يمكن لدولة تعيش على تسول المساعدات ان تحقق استقلالا اجتماعيا عن العالم، كيف يمكن لكل هذا العدد الذي يعيش على زراعة 7 مليون فدان ان يحقق اكتفاءً ذاتيا من الطعام من هذه المساحة الصغيرة، هذا مجرد مثال على كيف يمكن تحويل الافكار إلى كلمات عديمة المعنى بل وتثير السخرية”.

ثورة فوضاوية بلا فوضاويين

خلال أيام الثورة تواجد سامح عبود بالميدان مثله مثل آلاف المصريين. لقد علق البعض على تلك الايام بأنها “أيام الفوضاوية الأولى”، من خلالها ألتقى سامح بأطياف قرأت موقعه، فأسس “ملتقي الاناركيين في مصر”، أولى دوراته كانت في آب/ أغسطس 2011 والثانية في تشرين ثاني/ نوفمبر من العام نفسه.

يعلق على الحدثين قائلا “الملتقى كان محاولة لخلق شكل تنظيمي، لكن اكتشفت أني أتعامل مع أشخاص فردانيين لحد كبير، وغير مقتنعين بأهمية التنظيم. والأناركية بالنسبة لي تعني الملكية التعاونية، تعني أن يكون الانسان حرا، ولا تعني ان يكون الانسان منفلتا، وبالتالي فكرة التنظيم نفسها مهمة، فإذا انفلت الانسان لن يمكننا الحياة سويا، فالانسان كائن شديد الاجتماعية ولا يستطيع الحياة بمفرده”.

شارك عبود لاحقا في “اللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة” بمدينة 6 اكتوبر، والتي أصدرت نشرة بعنوان “صوت اكتوبر” صدر منها ثلاثة اعداد. كما أن اللجنة لعبت دورا في انشاء نقابتين الأولى لعمال مصانع “سوزوكي” والأخرى لعمال الصناعات الحديدية، لكنه يعلق على المجرى الدافق للثورة قائلا إن “هناك كثيرين يتعاملون مع الثورة على اعتبار انها مهرجان كبير، يحبون المظاهرات والمسيرات، ولكن حال دعوتهم لعمل أكثر عمقا لا تجد منهم احدا”. بالنسبة للاناركي العتيق “أصبحت مليونيات التحرير اشبه بحفلات الزار التي يتم فيها عزف موسيقى صاخبة جدا من أجل الوصول إلى لحظة اشبه بالغيبوبة ينزاح فيها التوتر، ولكن في حال دعوتهم لعمل مختلف مثل الكتابة في جريدة تصدر في منطقة مثل اكتوبر، أو جمع تبرعات لتمويل صحيفة صغيرة خارج القاهرة لا تجد احدا”.

افتراضات اليسار

بشكل أساسي يعزو سامح عبود “عجز” القوى التقدمية بشكل عام عن فعل أي شيء إلى أنها مازالت “متذيلة القوى الليبرالية بأنواعها”، وغير قادرة على طرح مطالب تميزها من ناحية وتخص الناس من ناحية اخرى.

“فالناس العاديون غير المسيسين يتحركون من أجل تحسين شروط حياتهم، والقوى التقدمية حتى هذه اللحظة غير قادرة على طرح برنامج يمس مشاكل هؤلاء المواطنين بشكل واقعي، وقضيتك الرئيسية هي افكار لا تتماس معهم على الاطلاق. مثل الدعوة لمجلس رئاسي، من أين يكتسب هذا المجلس شرعيته؟ وما الدافع لاختيار البرادعي أو صباحي وليس اي شخص أخر؟ هذه اسئلة منطقية وطبيعية يواجه بها رجل الشارع مثل هذا النوع من دعاية الثورة”.

شعارات إنشائية

نسأل سامح عبود: وماذا عن شعارات الثورة التي نادت بها الجماهير من اليوم الاول، لماذا لم يتم تستطع القوى السياسية بلورتها في خطة عمل؟ فيجيب: “شعارات الثورة “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” شعارات أدبية تتفق مع الثقافة الأدبية السائدة القائمة على الانشاء والخطابة ولكن ماذا تعني الحرية؟ وهل يوجد أحد ضد الحرية؟ هل الاخوان والسلفيين ضد الحرية؟ فأي حرية تعني؟ هل هم ضد العدالة الاجتماعية؟ بالطبع لا، العدالة الاجتماعية تعني لديهم الصدقة والزكاة”.

ويتابع موضحا “الجماهير تريد حلولا عملية لمشاكلها اليومية، لكن الشعارات الانشائية لا تصنع شيئا اكثر من الهتاف الذي يصبح مملا بعد قليل”.

انحطاط الثورة

الثورة الآن كما يراها سامح في حالة انحطاط مرعبة، “فالثورة لا يتم الغدر بها أو سرقتها، وإنما الثورة تنحط”، يعلّق.

المثال البارز بالنسبة له على هذا الانحطاط هو ظاهرة الالتراس، “كنت في البداية اتخوف من تعجل الحكم على هذه الظاهرة، لكن الآن اظن أن مجرد الثقة فى الألتراس معناه عدم فهم الثورة كعملية وظاهرة اجتماعية تقوم على عالم حقيقي وواقعي وليس على واقع افتراضي ترفيهي، فالثورات لا تقوم للقصاص والأخذ بالثأر، الثورات تقوم لتحقيق مصالح اجتماعية بالضد من مصالح أخرى، وتشجيع فرق الكرة على هذا النحو هو أقل بمراحل من التعصب للقبيلة أو الوطن أو القومية أو الدين”.

ويردف قائلا “تركيبة الألتراس العقلية غير ثورية ولا تحررية ولا عقلانية أصلا فهي نفس عقلية الفاشيين يسارا ويمينا، مع ملاحظة أن الألتراس أساسا هم من اليمين العنصري فى أوروبا”.

الطفولة الاحتجاجية

بالنسبة لسامح عبود، فإن الذي سيخرج الثورة من “انحطاطها” ويضعها على طريقها “الثوري” هو طرح مطالب اجتماعية واضحة لها علاقة بطبقات اجتماعية محددة، مثل قضايا البطالة، وسوء توزيع الثروة.

ويضيف “حتى الان لم تتحدث أي قوى سياسية عن إعادة توزيع الثروات في مصر، وبشكل أكثر تحديدا عن مصادرة الثروات التي تعاظمت نتيجة للفساد في النظام السابق. لا أتحدث عن استرداد اموال الخارج ولكن عن الموجود بالداخل”.

أما حالات قطع الطرق والاعتصامات والاضرابات التي تحصل، فلا يعوّل عليها “عراب الأناركيين المصريين” طالما بقيت في إطار التمرد العشوائي غير الممنهج، “تماما كما يغضب طفل صغير ويبدأ في تكسير الاشياء من حوله بينما أنت غير قادر على معرفة ما يريده تحديدا”، يقول.

جميع الاحتجاجات الاجتماعية حتى الآن ذات مطالب محدودة، يتابع عبود، وهي احتجاجات تنفك بمجرد الاستجابة لها، “فقد تجد مجموعة من العمال قاموا باعتصام او باضراب من اجل زيادة في الرواتب ولكن حالما تحدث الزيادة، تتوقف المجموعة عن الحركة، وهذا ما يزيد من إنحطاط الثورة”. لذا فإن الثورة ستتابع طريقها “فقط عندما تتكون مطالب عامة تتوحد عليها قطاعات جماهيرية ذات مصلحة في تحقيق هذه المطالب”.

ويختم عبود حديثه مع “مراسلون” بالقول إن “الكثير يتحدث عن ثورة الجياع القادمة بدون الوعي بأن فقراء المدن اذا لم يكن امامهم فكرة واضحة أو برنامج محدد، تحول غضبهم المكبوت إلى هدف، بدلا من تحوله إلى موجات شغب مدمرة”.