مع ساعات الفجر الأولى يغادر المهدي السعداوي بيت عائلته بقرية بئر الأشهب قاطعاً 80 كم حتى مقر جمعية طبرق الأهلية للتوحد بمدينة طبرق (500 كم شرقي بنغازي).
هناك وفي أحد فصول الجمعية وطوال ثلاث ساعات يعطي الشاب العشريني الحاصل حديثاً على ليسانس تربية خاصة دروساً تأهيلية لأطفال مصابين باضطراب التوحد.
مع ساعات الفجر الأولى يغادر المهدي السعداوي بيت عائلته بقرية بئر الأشهب قاطعاً 80 كم حتى مقر جمعية طبرق الأهلية للتوحد بمدينة طبرق (500 كم شرقي بنغازي).
هناك وفي أحد فصول الجمعية وطوال ثلاث ساعات يعطي الشاب العشريني الحاصل حديثاً على ليسانس تربية خاصة دروساً تأهيلية لأطفال مصابين باضطراب التوحد.
الجمعية التي يعمل بها السعداوي تأسست بمجهودات نشطاء من المدينة وبدعم من المجلس المحلي للمدينة في ديسمبر من العام الماضي وهي الثالثة من نوعها في الشرق الليبي وتُعنى بتوفير الخدمات الصحية والتربوية التأهيلية لفئة اضطراب التوحد وتنمية مهارتهم وتأمين النشاطات الاجتماعية والترفيهية والرياضية لهم والدفاع عن حقوقهم.
مناشدات الأهالي
يقول الدكتور خليل معيوف رئيس مجلس إدارتها في حديث لـ “مراسلون” إن التفكير بإنشائها بدأ بعد مناشدات قام بها بعض أهالي أطفال يعانون اضطراب التوحد لعدم وجود أي جهة تقوم بتشخيص المرض، أو أي مراكز رعاية حكومية يلجؤون إليها.
وتمكنت الجمعية بحسب معيوف من رصد 87 حالة في المدينة التي يبلغ تعداد سكانها حوالي 250 ألف نسمة في فترة قصيرة نسبياً، فيما يؤكد أنه لو توفر لهم عمل مسح شامل سيرصدون عدداً أكبر بكثير من الحالات التي يتعامل الناس معها على أنها “إعاقة” لا يمكن علاجها أو تطوير وضع المصاب بها.
يضيف معيوف أن “مركز مدينة البيضاء (300 كم غربي طبرق) إمكانياته ضعيفة، وبالكاد يستوعب أطفال المدينة ولا يستقبل حالات من خارجها”، فيما يبعد مركز مدينة بنغازي حوالي 500 كم عن المدينة.
رحلة التأسيس
لم يتأخر حصول الجمعية على الإشهار من طرف المجلس المحلي سوى ثلاث ساعات بعد تقديم الطلب، واستأجر مجلس إدارتها مبنى من طابقين بقيمة 1500 دينار شهريا (حوالي 1160 دولار) دفع منها 4 أشهر مقدماً من اشتراكات أولياء الأمور والأعضاء وبعض التبرعات.
بينما تكفل المجلس المحلي بدفع قيمة الأشهر الثمانية المتبقية من عقد إيجار سنة كاملة ووفر أجهزة متطورة لتأهيل مرضى ضعف النطق والتخاطب هي الأولى من نوعها في المنطقة الشرقية.
لكن رحلة التأسيس وانطلاق العمل لم تكن سهلة بالكامل، يقول معيوف “واجهتنا مشكلة تشغيل الأجهزة وكنا نحتاج أكثر من أخصائي مدرب على تشغيلها ولم نكن نملك القدرة على تدريب أخصائيين من الجمعية فكلفة تدريبهم أعلى من قيمة الأجهزة نفسها زائد قيمة السفر لبلد مثل بريطانيا والإقامة لعدة أسابيع”.
يضيف معيوف “أقامت الجمعية دورة تدريبية في مجال الأساليب الاستراتيجية في عملية التعلم وتنمية المهارات لأطفال التوحد واستهدفت عناصر وطنية”.
ولكن بحسب قول معيوف فإن الدورة التي لم تستمر سوى 30 يوماً لم تكن كافية لتأهيل الأخصائيين الشباب “العديمي الخبرة”، ما حذا بهم للتعاقد مع أخصائي مؤهل من مصر سيستسلم عمله قريباً.
بينما يبقى توفير راتب الخبير المصري الذي يتجاوز 1500 دولار أمريكي الهم الأكبر لأعضاء الجمعية في ظل إمكانيات متواضعة حالت دون صرف مكافآت للأخصائيين المتطوعين سوى مرة واحدة، ولم تتعدى القيمة 400 دينار ليبي لكل منهم.
همٌ حدا بالجمعية للتقدم بمذكرة لرئيس الحكومة علي زيدان خلال زيارة قام بها للمدينة مطلع أكتوبر من العام الماضي، إلا أنهم وبحسب قول معيوف لم يتلقوا أي رد بخصوصها حتى الآن.
وبينما وعدت إدارة التخطيط العمراني بوزارة الإسكان والمرافق بطبرق بتخصيص قطعة أرض تصل مساحتها 3000 هكتار لبناء مركز جديد لاستقبال الحالات من هذا النوع، أعطى المصرف العقاري بطبرق وعوداً بتمويل هذا المشروع.
نقص خبرة
نور ذو التسع سنوات هو واحد ضمن 50 طفلاً هم الحد الأقصى لقدرة الجمعية على الاستيعاب، يشرف عليهم 18 أخصائيا مبتدئاً على فترتين صباحية ومسائية.
يقول عنه والده إنه “حاد الذكاء ولديه نشاط حركي زائد، وذلك ما يعرضه كثيراً للخطر”، ويؤكد أنه “ماهر جداً في الألعاب الالكترونية ويتفوق على أشقائه الجامعيين في معظم الألعاب”.
ويرى الوالد أن قدومه المتأخر للعلاج بطأ من تحسن حالته وظهور تطور على أدائه العام حيث لا يزال “يجد صعوبة في تأدية ابسط احتياجاته كدخول الحمام”، إلا أنه رصد تحسناً ملحوظاً في حالته بعد العلاج.
لكن مشرفه المهدي السعداوي قال لمراسلون أنه “غير راضٍ عن ما يقدمه لمريضه بسبب قصر الفترة وقلة الإمكانيات التي تعانيها الجمعية”، وأضاف أنه شخصياً كاد يتعرض لحادث خطير إثر سقوطه من الشرفة في محاولة لجلب مفاتيح رمى بها نور حين أغلق على نفسه الباب.
السعداوي الذي يعاني أربعة أطفال في عائلته من هذا المرض، أعرب عن امتعاضه من قلة الإمكانيات ونقص الخبرة “هناك نقص في كل شئ بدءاً بالفصول والأخصائيين وحتى الأجهزة والألعاب التي تمكننا من خلق برامج تأهيل في المستوى المطلوب”.
واستطرد “نحن كأخصائيين نحتاج لمن يشرف علينا لقلة خبرتنا في هذا المجال، وأنا أتحرق شوقا لوصول الأخصائي القادم من مصر لأنني احتاج للكثير لأتعلمه، فالرغبة والحماس وحدهما لا يكفيان خاصة في عمل يتطلب الدقة كالذي نقوم به الآن”.
تعامل الحكومة
يستنكر رئيس مجلس إدارة الجمعية الذي قضى 15 سنة من حياته موظفاً في صندوق الضمان الاجتماعي، طريقة تعامل الحكومة السابقة مع هذا المرض، خاصة وأن الأمل كان في أن تتغير طريقة التعاطي مع هذه المسائل الحساسة في المجتمع بتغير النظام الحاكم في ليبيا بعد الثورة.
ويشير معيوف بكلامه هذا إلى قرار أصدره رئيس وزراء ليبيا السابق عبد الرحيم الكيب بإنشاء ثلاثة مراكز متخصصة في تأهيل المصابين باضطراب التوحد، وحدد أماكن إنشائها في كل من طرابلس في الغرب وبنغازي في الشرق وسبها في الجنوب.
ويصف معيوف هذا القرار بأنه “قرار السياسي”، حيث ينبغي برأيه أن تبنى مثل هذه المراكز في كل المدن على حد سواء، لأن السفر يكبد عائلات المرضى متاعب ومخاطر عليهم وعلى الأطفال الذين يحتاجون للتأهيل في بيئتهم الطبيعية كجزء من العلاج، هذا فضلاً عن التكاليف الباهظة التي سيتسبب بها التنقل بين المدن يومياً.
وفيما يبقى مدى اهتمام الدول بالفئات الخاصة من مواطنيها معياراً لتقدمها وتحضرها، يظل الرهان الأكبر أمام مؤسسات المجتمع المدني هو رفع مستوى الوعي بهذه الأمراض وإقناع الناس بعدم التردد والخجل في إظهار طفلهم المصاب، وجعله يحظى بفرصة للتأهيل كي يساعد نفسه وأهله في الدفع بحياتهم إلى الأمام.