لم يتعود التونسيون ولا العرب على تصدع معلن في حركات الاخوان المسلمين. وفي تونس بدا من المستحيل أن تظهر حركة النهضة على تلك الشاكلة من الخلاف البين أمام الرأي العام، ذلك أنها تعودت على إحاطة غسيلها الداخلي بأسوار من التكتم. بل إن حزب النهضة برز مؤخرا كأكثر الحركات تماسكا تنظيميا مقارنة بمجموع الاحزاب التونسية.

لم يتعود التونسيون ولا العرب على تصدع معلن في حركات الاخوان المسلمين. وفي تونس بدا من المستحيل أن تظهر حركة النهضة على تلك الشاكلة من الخلاف البين أمام الرأي العام، ذلك أنها تعودت على إحاطة غسيلها الداخلي بأسوار من التكتم. بل إن حزب النهضة برز مؤخرا كأكثر الحركات تماسكا تنظيميا مقارنة بمجموع الاحزاب التونسية.

لكن اغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد يوم 6 شباط/ فيفري الجاري أظهر خلافا علنيا بين السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة والأمين العام لحركة النهضة، وبين الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة وزعيمها الروحي. فمبادرة الجبالي لتشكيل حكومة تكنوقراط قوبلت بالرفض من قبل الغنوشي وأدت إلى استقالة الأول وتكليف علي العريض بتشكيل حكومة جديدة. فهل هي بداية انشقاق داخل الحزب الاسلامي؟

هزّة غير مسبوقة

بقطع النظر عن دبلوماسية الخطاب النهضوي التي حاولت التهوين من مقدار التصدع الحاصل، فان ما ابداه الجبالي، النجم البازغ هذه الايام في تونس، مدعوما بقلة قليلة من أبناء تياره وبأغلبية من اصوات المعارضة والمجتمع المدني يمكن ان يقرا سياسيا من جهتين. جهة إنقاذ المسار الانتقالي وجهة إنقاذ حركة النهضة نفسها عبر تجريدها مرحليا من اعباء السلطة وتحويلها الى حيز الحراك الانتخابي القادم غير مثقلة بحصيلة الفشل الامني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تراكمت على مدار تجربة الترويكا.

لقد سلك السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة المؤقتة في تونس والامين العام لحركة النهضة طريقا وعرا بكل المقاييس حيث كشف للعموم عكس ما حرصت وتحرص حركة النهضة على ترويجه منذ توليها الحكم بأنها حركة متماسكة ومنضبطة لقرارات الهياكل التي تسيرها مهما كانت الخلافات وكثرت التخمينات والتوقعات.

أحدث رئيس الحكومة رجة غير مسبوقة مست بعمق المشهد السياسي لما فيها بدرجة اولى من شق عصا الطاعة عن التنظيم الذي ينتمي إليه، ومن رسائل هي موجهة بشكل أساسي للتنظيم المذكور الذي لم يحسن بدوره التصرف في ردود فعله على امينه العام فقابله بتمرد مماثل وأعلن عن رفضه لمساعيه، و لوح بقطيعة معه.

لقد حاول الكثير من قادة النهضة التقليل من حدة التجاذبات الحاصلة داخل الحركة. وردد سمير ديلو احد القادة الشبان في الحركة ووزير حقوق الانسان و العدالة الانتقالية، بان حركة النهضة متماسكة ولا وجود لصقور وحمائم داخلها.

صلابة في التنظيم

الذين يقللون من الخلافات داخل النهضة، يقولون ان حزبهم لم يشهد اي خروج غاضب من “بيت الطاعة” ولم يشهد استقالات او حتى مجرد التلميح باستقالة مقارنة بالأحزاب الاخرى على غرار شركائهما في الحكم (المؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل من اجل الحريات) الذين شهدا انسحابات واستقالات كادت تعصف بالحزبين.

وحتى لما أعلنت النائبة بالمجلس الوطني التأسيسي عن استقالتها من حركة النهضة واطلقت تصريحاتها القادحة في تصرفت الحركة وفي رئيسها على منابر الاعلام سرعان ما سارع رئيس الكتلة النيابية للحركة داخل المجلس السيد الصحبي عتيق الى تكذيب ذلك ورفض استقالتها.

وكذلك تم التقليل من التصريحات الحادة والناقدة جدا للحركة التي أدلى بها السيد عبد الفتاح مورو نائب رئيس النهضة وأحد مؤسسيها لوسيلة اعلام فرنسية واعتبروها من باب التعبير عن الرأي وأخرجت من سياقها.

وفي الحقيقة يعتبر الحديث عن تماسك حركة النهضة وصلابة بنيتها التنظيمية والهيكلية وانضباط القواعد للقيادة وانضباط القيادة لتعليمات الشيخ هي سمة من سمات الحركة قبل توليها الحكم بل هي سمة رافقت تاريخ الحركة في مواجهة ديكتاتورية نظام الرئيس بن علي بحيث كان هناك تناغم و تنسيق قوي بين القيادات في السجون والقيادات في المهجر (خارج البلاد) وعلى رأس القيادتين الشيخ راشد الغنوشي.

صراع على السلطة

مع خروج الحركة إلى الضوء مباشرة على رأس السلطة ومع كثرة الاخطاء في تسيير شؤون الدولة ودواليبها المختلفة، لم يعد خافيا بروز رأسين أو سلطتين داخل نفس الحزب. سلطة “مونبليزير” (المنطقة التي يوجد بها المقر المركزي لحركة النهضة) بقيادة راشد الغنوشي. و سلطة “القصبة” حيث المقر الرئيسي لرئاسة الحكومة بقيادة حمادي الجبالي. الأول مدعوما بالصقور على غرار وزيري الفلاحة والصحة محمد بن سالم وعبداللطيف المكي، والثاني مدعوما بالحمائم على غرار نائب رئيس الحزب عبدالفتاح مورو.

خلال المؤتمر الأخير لحركة النهضة في صائفة 2012 بدت التناقضات و الأفكار متضاربة لكن تم تأجيل الخلاف لسنتين قادمتين حتى لا تزيد في انفراط عقد الحزب. و لكن هذه المناورة التي أرادت ان تؤجل ما يخشى منه لم يكن مضمونا البتة أن تعجز عن احتواء المختلف حوله فيتسرب عبر طرق كثيرة ومسالك عدة.

ولئن تعددت أسباب الخلاف إلا انها هذه المرة ومع مبادرة الجبالي جعلت المواجهة مباشرة بين رئيس الحركة والموالين له، و أمينها العام والمتعاطفين معه إن كان تعاطفهم علنيا أو سريا.

خلافات قديمة

يعتبر الجبالي الاكثر معرفة بأسرار “حركة النهضة” التي عرفت بهذا الاسم في شباط/ فيفري 1989 استجابة لقانون “يمنع إقامة احزاب على اساس ديني” بعد ان كانت تسمى “حركة الاتجاه الاسلامي”. وقد اعلن عنها في 6 حزيران/جوان 1981 اثناء مؤتمر صحفي عقده راشد الغنوشي الرئيس الحالي للحركة ونائبه الحالي المحامي عبد الفتاح مورو، وهما من مؤسسي الحركة في اواخر الستينات.

وكجماعة إسلامية اقامت الحركة أول لقاءاتها التنظيمية بصفة سرية في نيسان/ أفريل 1972 ، ومن ابرز نشطائها الاوائل الدكتور المنصف بن سالم و صلح كركر (توفي سنة 2012) و حبيب المكني وعلي العريض وزير الحكومة المكلّف.

وخلال هذه الفترة التي تمتد الى حدود الاربعين سنة عرفت الحركة عدة انشقاقات لعل ابرزها خروج السيد عبد الفتاح مورو وتجميد نشاطه بعد تورط الحركة في اعمال عنف منها الاعتداء على مقر لحزب النظام السابق في 17 شباط/فيفري 1991. وقد اعترفت الحركة بمسؤوليتها في هذه الاحداث بعد عشرين عاما.

العنف لم يكن السبب الوحيد للخلاف داخل الحركة بل كان لطريقة العمل والافكار دور في ظهور الانشقاقات.

فالحركة لم تحدد موقفا موحدا من الديمقراطية ولا من التشدد الديني ولا من التيارات السلفية ولم نسمع لمدة عشرين سنة قضاها السيد راشد الغنوشي في منفاه في بريطانيا بيانا يندد فيه بعنف الحركات الاسلامية. لا بل ان التساهل الذي نراه اليوم في التعامل مع التيارات الاسلامية التي ظهرت في تونس بعد الثورة هو الذي ساهم في تعميق حالة الغموض لدى الراي العام.

والعارفون بخفايا الحركة من الداخل يقرون بوجود تقسيمات داخل الحركة بين الشيوخ والشباب وبين الاعضاء الذين بقوا في تونس والذين هاجروا البلاد وكذلك بين الذين دخلوا السجون والذين لم يتعرضوا لأية عقوبة جسدية.

لكن أبرز مشكلة عرفتها الحركة هي انشقاق 21/15 وخروج الجناح المتشدد الذي بات يقود التيار السلفي. وهو ما اعتبره السيد وليد البناني نائب رئيس كتلة حركة النهضة بالمجلس الوطني التاسيسي التونسي “هامشي” ولا يؤثر في طبيعة الحركة ولا في آليات اشتغالها أو منهجية عملها.

سيناريوهات

بينما يثبت سير الأحداث و الوقائع وجود صراع داخل حركة النهضة يصر قادتها بارتباك تام وغضب واضح وتوتر ملحوظ على أن هذا الكلام هو من باب الخيال وأن الجبالي هو ابن الحركة وأمينها العام، وأن انشقاقه ما هو إلا أماني الخصوم الذين لا يريدون للحركة خيرا ويسعون إلى تدميرها.

وهو ما ينفيه أيضا بعض القادة السياسيين على غرار السيد الباجي قائد السبسي رئيس حزب نداء تونس وهو من أهم مكوني التحالف الخماسي (التحالف من اجل تونس) الذي يعتبر أن الانقسام في صفوف النهضة سيضر بأمن البلاد ومسارها الانتقالي نحو الديمقراطية، ويؤيده في ذلك رئيس  الحزب الجمهوري وشريكه في “التحالف من اجل تونس” السيد نجيب الشابي الذي لا يريد للتجربة السودانية أن تتكرر في تونس (الصراع بين حسن البشير وحسن الترابي).

غير أن بعض المحللين السياسيين يذهبون إلى أن الجبالي سينتهي إلى بعث حزب جديد يجد هوى كاملا من مدارس إسلامية شتى وحتى من شخصيات وطنية كانت دائمة الاعتقاد بان لا تناقض بين اللإسلام وبين الهوية التونسية.

لكن بعض المشككين في نوايا الحركة الاسلامية، يذهبون الى ان استقالة الجبالي لا تعدو أن تكون سيناريو غاية في الدهاء استعدادا للانتخابات القادمة.

ويرى أصحاب الرأي أن استقالة الجبالي التي تركت آثارا طيبة لدى عموم التونسيين، لا تعدو أن تكون محاولة لإعداد الرجل للانتخابات الرئاسية التي ستجري في اقل من سنة. وأن النهضة بهذا التكتيك تجاوزت معضلة البحث عن مرشح للرئاسة.

ومهما يكن الأمر، فإن الثابت أن أكثر من حجر ألقي مؤخرا في بركة الحركة الاسلامية الراكدة منذ زمن.